أولى الزّهرات

خواطر

أولى الزّهرات


حقل الرّبيع

يذكّرني منظر الورد المولود حديثًا بلقائنا الأوّلّ

 الّذي يتكرّر كلّ عقدٍ من الزّمن…يا ألفَ جيلٍ يتكرّر في خاطرتي، لقد أعادني الرّبيعُ الآنيُّ طفلةً شاحبةَ الأفكار، متدفّقة كنهرٍ، تنتظرُ بلهفةٍ موعد الصّباحِ وموعد الظّهر وموعد المساء والفجرِ لتلتقيَ حبيبًا غابَ عنها دهرا…

بدا أنّ الانتظارَ مروّعٌ وقاسٍ وها هو يعودُ إليّ بما لم أحلمْ به يومًا من الأمنياتِ الّتي تليقُ بأميراتِ بلاد العجائب! فمرحًا بك يا أيّها الانتظارُ … مرحا بكلّ ربيعٍ بكت أزهاره لشوقٍ لم يقطرْ من حبّات النّدى، لكلّ ربيعٍ صمتت نسائمه عندما طرقت باب روحي الذي كان مشرّعًا للمدى… ولم يذق حلاوة رحيق الأزهار من بيلسانٍ وزهر لوزٍ ورمّانٍ… من زهر اللّيمون الذّي يزيّن بساتين الطّفولة المشاغبةِ بحياءٍ!

… وكان اللّقاء أشبه بموعدٍ لنجمةٍ سقطَ من جعبة اللّيل المجنونِ، وكان موقّعًا باسم القمر المكتمل بدرًا!

لقاء في الطّبيعة


تقول الرّسالة:

تحيّة طيّبة وبعد…

أيّتها النّجمة، أمستعدّةٌ أنتِ كي تزوري سمائي اللّيلة؟ أتريدين أن تستمعي لحديثٍ أُرتّبه في بالي كلمةً كلمةً ؟ لن أطيل عليكِ بالكثيرِ من النّثر المسجّع فما ينتظرنا في موعدنا الأوّل سيدوّن للأيّام القادمة قصائد لا تزول ولا تفنى! كلّي ثقة أنّك ستأتين ولو كنتِ مقيّدةً بسلاسل من نورٍ،ستأتين… ولو كنتِ مسحورةً بتعاويذ السّحرةِ، ستأتين… ولو كنتِ مشفّرةً بتمتماتٍ قدسيّةٍ كرّرها متعبّدٌ …ستأتين… هذا الرّبيعُ الرّاهنُ لنا وقد حضّرته لكِ على طبقٍ من فلٍّ وياسمين، الياسمين الّذي تحبّين.. لذا لسوف تأتين إليّ.

وأنا بالانتظار…مع شوقي الممتدّ بين مسافاتنا الشّاسعة …بين ألفِ بلدٍ وبلدٍ…

صديقك القمر

وهكذا صار! فلقد تحقّقت نبوءةُ الرّسالةِ ولم تتفتّحْ أوّل زهرة إلّا وكنّا معًا على دربِ الضّيعة، نسلك طريقًا وعرةً، بلا زادٍ نحملهُ ولا ماء نشربه فقد نهاني عن ذلك لما في الحقلِ البعيدِ من ينابيع رقراقةٍ، ولما يحمله الشّجر من ثمرٍ يانعٍ شهيّ… وقال :” الطّبيعة أكرمُ من أن تبخل على زائريها بالماء الرويّ والثمر النّديّ، ألا يا خليلتي، هلمّي نحو الحقول كي نلتقي فلقد طال الانتظارُ عقودًا من الألم والدّموع ، ولقد جفّ حبرُ القلبِ من مراودة قلمٍ عقيمٍ… ألا إنّ يراعيَ يفيضُ بالكثير الكثير..”

تراقص قلبي حتّي سمعَت الطّيور نبضاته فحرّكت ريشها بسرعةِ الرّيح وأطلقت تغريدةً رنّانةً جعلت زهرات اللّيمون تتناثرُ فوق وجهيْنا فتناولنا فطورنا الأوّلَ معًا.

لم أستطع تدارك ما يحصلُ للتّوّ، فالجمال المتساقطُ كالأمطار على كياني أفقدني لغة التّعبير، واكتفيتُ بالتّملّي من كلٍّ مشهدٍ جديدٍ تقع عليه حواسيّ الّتي تفتّحت أبدًا كرئتي طفلٍ حديثِ الولادة.

-منذ متى لم تتنفّسي؟ قال.

-منذ دهورٍ بعيدةٍ ربّما، منذ أن تركتُ آخر حقلٍ كان يجمعني مع أصدقائي.

-ومن هم أصدقاؤك أولئك؟ بتعجّب وغيرة.

-الشّجر والمطر والزّهور والغيوم والبلابل…أأُكمل؟

-ولم تلتقوا من جديد حتّى اليوم؟

-لقد نسيتُ عهدًا دهريًّا قطعناه سويًّا، فلقد أخذتني الحياةُ في مدنها البعيدة أغوار المتاعب، ولم أجد نفسي سوى على مقاعد الدّراسة، أتنقّلُ كفراشةٍ بلا ألوانٍ من كرسيّ لحافلةٍ، لمنزلٍ، لشوارع مزدحمةٍ بالأتربة والدّخان… أمّا الطّبيعة صديقتي المغرورة فلقد نسيتني تمامًا ولم تسأل عنّي طيلة تلك المدّة.حتّى جئت أنت.

-ولكنّ الطّبيعة يا خليلتي ما زالت هنا، ترافقُ الجميع لحقولها،وتدعوهم لمائدتها الطّليقة… أنتِ من اختار المدن…

-بل هي الّتي اختارتني، فلم يكن باليدِ حيلة! فمهما بلغ مكوثي هنا كان لينتهي إلى ما أنا عليه طالما لم ألتقِ رفيقًا بعد!

-أنتِ محقّةٌ… فوحدة الطّريقِ أصعب بكثيرٍ ممّا يظنّ أيّ امرئٍ… فقط من التقى محبوبه يمكنه  مواصلة الدّربِ ولو استمرّ ذلك للأبد… والآن أخبريني كيف وجدتِ البريّة بعد كلّ هذا الهجران؟

-وكأنّي أراها لأوّل مرّة وأسمع حسيسها الدّافئ يملأُ قلبي بالبهجة وكياني بالنّور…

– هيّا تقدّمي معي…

-إلى أين؟

-إلى مشرق الشّمس لتغسلي بالكِ من عوالقِ الفكرِ المتراكمِ من فعل الزمن…

-لقد غسلته للتوّ!

فنظر إلى هالتي ورآها مشرقةً بنورٍ لا يوصف، فأردف: أنتِ مُحقّة.

-حسنًا،انظري أترين تلك السّاقية؟ تعالي لأروّيكِ فلقد شقّق عطش الدّهور شفتيْكِ الصّغيرتيْنِ يا صغيرتي…

– لقد ارتويتُ في مطلع الطّريقِ إذ شربتُ وجهك كأسًا من البابونج الطّازج.

– هنيئًا… يضحك…

– والآن، سأقطفُ لكِ من التّين ثمرةً ومن اللّيمون ولاحقًا سنجمعُ الزّيتون في سلالنا كي نعصر زيته للّيالي الحالكات… أفلا تقبلين أيضًا؟

-ألم تلمحني وانا أتناولُ كلماتك الشّهيّة، كلمة إثر كلمة ، ولكنّني لم أشبع بعد… فأكمل حديثك السّماويّ، ودع التّين واللّيمون لموسمٍ آخر… أمّا عن الزّيتون فلن أترك موعدًا كهذا أبدا … أبدا…

-يا خليلتي، أراكِ قد شُفيتِ تمامًا من موبقات المدن ومن دهاليز عالم الفكر والأرقام، وأراكِ تنضحين بالزّيتِ الأخضرِ أكثر من الزّيتون نفسه، لا شكّ أنّك ستضيئين لأعوامٍ… ولكن، لا تدعي ذلكَ يُنسيكِ موعد القطاف!

-لن أنسى…فسلالي مترعة بالانتظار…ولقد ذقتُ حلاوة الشّوقِ فكيفَ أُحجمُ عن مزاولةِ مواعيده المضروبةِ بلهفة!

-سأنتظركِ عند كلّ مفرقٍ عسانا نلتقي ولو لسويعاتٍ بسيطة!

-هذا مؤكّدٌ فلم يسبق لنجمةٍ وقمرٍ أن التقيا في وضح النّهار وتحت ضياء الشّمس…

هاتي يدكِ لأوقّع لكِ مكان موعدنا…

وهكذا أمسك بيدي ورسمَ طريقًا على خطوطِ كفيّ بشعاعه الأنيقِ وكأنّ تلك الخطوط قد ولدت هنا لأجل هذا اللّقاء الأبديّ.

وكانت أولى الزّهرات الّتي تفتّحت على شرفتي…

تبسّمتُ لها ولم أحتسِ معها كوب قهوتي المعتاد، فلقد نذرتُ الصّوم للموعد الآتي.

قهوة وكتابة

ضحك البلبل في أذني

فله ابتسمتُ
حرّك ريشه المذهّب بالأمل
وطار يرفرفُ عاليا
لونُ الشّروقِ أحمرُ
لون المغيب ورديّ
وكذا خدّاه زهرٌ مخملي 

غرف الماء المتلألئ من عيون الغابِ
وعيناهُ عشبٌ ندي
فارتوى كاللّيل من زاد الحصاد 
وزادهُ نورٌ خفي
نفض عن ظهره همّ التراب
وهمّ يسافر للفضاء
في فكره فكرٌ عليّ 

ذاك الحنين والبعاد والمعاد
كله من باطنٍ حلوٍ نقيّ 

الطبيعة غنّت -ليال
مساحة_وعي 

اخترتُ لكم من مساحة- وعي هذا الفيديو:

من قلب الطّبيعة: شو فيني إعمل بورق الغار؟

وأيضًا: ملخّص كتاب السّرّ(لتحقيق أيّ شيء)




مساحة وعي

1 thought on “أولى الزّهرات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *