غزّال الشعر في وادي العقيق

قصة قصير

من تراثنا الشعبي اخترت لكم اليوم قصة نادرة ، سمعتها مرارًا من أمي . ولسردها ذكرى جميلة تؤنس قلبي ، إذ كنّا انا واخوتي نصغي لها بما يشبه حالة السحر ! حينما كنا نتحلق حول طبلية القمح الخشبية ، نقوم بتنقية الحب الأصفر من الزؤان الأسود، استعدادا لموسم السلق ، حيث تدلى الدلاء بعد نضوج القمح ويُصعد بها إلى السطيحة الواسعة حيث كنا نلعب، ندرس، نرقص، نغني ونثرثر وكثيرا ما نسهر تحت ضوء القمر.. ويطول السمر مع الزائرين…
على سطيحتنا مرّ العمر ، وكبرنا ، وحدثت اولى اللقاءات وآخرها.. عُقدت كل البدايات والنهايات سعيدة وحزينة .. ترعرعت الطفولة على يد الشبان ، وشيع الاولاد آباءهم وزغردت النساء للعرسان..
ها هنا حصل كل شيء.. وبدأ كل شيء كما انتهى…
في مطلع درج منزلنا فسحة واسعة تتوسط باب البيت وباب السطيحة ، هناك كنت اجلس القرفصاء ، وتنزل حبات القمح من الطبلية إلى الوعاء الذي أضعه في حجري وأستمع لأمي وهي تحكي حكاية { غزّال الشعر في وادي العقيق} كانت جلسة موسيقى ولكن من نوع آخر.. هي لمسة الأم التي تخيط ثوب الفكر الأوّل.

كان يا ما كان في سابق العصر والأوان ، في هذه البلدان ، وتحديدًا ها هنا في الضيعة القديمة ، كان الشيخ عبدالله سيدها وكبير الجميع ، يعيش مع زوجته الحاجة فاطمة في سلام وأمان ولم يكدر عيشهما مكدر الا حرمانهما من نعمة الولدان.
لكنهما للحقيقة والله يشهد رضيا بما قُسم لهما بطيب خاطر ، وبديا عبرة طيبة لكل ناظر.

كانت الحاجة فاطمة مثالا للزوجة الصالحة ، باسمة الثغر مليحة، لا تصدر من لسانها الا العبارة الفصيحة ، تحيك للناس أروع الثياب معينة زوجها في ضيق الأحوال .
فما كان من الشيخ عبدالله إلا أن بادلها الإحسان ، فاشترى لها من الثمر اطيبه، وأغدق عليها الهدايا..فحكى الناس عن سعادتها أجمل الحكايا..

وقبل ذلك بأوان ، كان للحاجة فاطمة جارة صديقة تُدعى نفيسة ، رزقها الله بمولود وحيد، ترعرع في حضن والديه بغنج ودلال ، فلقد عزّ الأبناء في ذلك الزمان، وعانت النساء من عسر الولادة وكثر الموت قبل الأوان فحصد الأطفال والشبان .
فنصحت الحاجة فاطمة جارتها العزيزة أن تنذر نذرا ليمدّ الله في عمر ابنها شرط ان تكتمه ويبقى سرا.

وهذا ما حصل…
ولما صار خضرٌ شيخ الشباب واختار له عروسا ، تذكرت نفيسة ما كانت قد عقدت من النذر ، وقررت ان تنفذه في القريب العاجل كيما يصيب قرة عينها سوء وكدر.

وفي ذلك الوقت من الانتظار ، تغيرت الأحوال في كل الديار. …
لكن المنازل اسرار..
وحدث ذات صباح شتوي رعديد ،ان عاد الشيخ عبدالله كالعادة من الصيد ، فطرح اليمام الأسود بجانب مقعد المصطبة ، حيث تقعد زوجه الرقيقة ، فحن قلبها الرؤوف لمنظر اليمامة المذبوحة .
فقالت في حنان :” ما أنقى هذا الدم الأحمر كالمرجان ،فوق بياض
الثلج ، وسواد هذا الريش… سبحان الله أترى جماله يا حاج..؟! “

وما إن أنهت المسكينة كلامها، حتى حلت عليها صاعقة الجنون . لا لم تكن عواصف كانون .
لقد أطار الشك المرّ عقل الشيخ
وقال بغضب شديد:
أتعرفين رجلا اسود اللون
فعشقتِه وأنا أبله أغرق في النوم!

فتحت الحاجة فاطمة عينيها بأقصى اتساع وكأنها في حلم مخيف ،
وانقلب حالها من عيش الأميرة منذ تلك اللحظة لعيش خادمة حقيرة ،
تستقبل زوجها بطشت الماء فتغسل قدميه
وهو بالسوط يقسم ظهرها النحيل
بعدما يسألها حبلا من الأسئلة طويل:
_ من أجمل مني؟
_ من أقوى مني ؟
_ من أفضل مني؟

  • من أغنى مني؟
    من ..من ..من …
    وهي تجيب : لا على وجه الأرض أفضل منك .ولا أجمل منك .. ولا أغنى منك…. وتستمر بالكلام حتى يجف حلقها تماما فيكون ضرب السوط لعذابها اليومي ختاما..

وحين أشرقت شمس الصباح ، قصدت نفيسة دار فاطمة مبتسمة ، وهي تنادي بصوت عال، لقد كتمت سر النذر طويلا ، وحان الوقت لأخبرك بكنهه.
فهزت برأسها الحاجة فاطمة، ويأكل قلبها الألم..
فتكلمت نفيسة بما ألهب جرحها الشديد:
نذري يا فاطمة أن تخيط أثواب العرس
من تملك دون كل الخلق أوفر الحظ السعيد…
ما إن سمعت المسكينة تلك الكلمات
حتى فاضت عيناها بالدموع
وحكت لصديقتها كيف فارقتها كل السعادة
وكيف تُبلل بالدمع هاتيك الوسادة

أطرقت نفيسة تسرح في البعيد
ثم ضحكت عيناها من جديد
وهمست في أذن صديقتها بما ينجيها من سواد أيامها ولياليها…

وكان ان عاد الشيخ عبدالله كعادته من الصيد
منتظرا الطشت والماء وزوجته الذليلة المنكسرة ، ليعيد نوبته العاصفة من الغضب والجبروت
ولكنه لم يلقاها في الجوار..
فهب كالصقر لأرض الديار ،
وجدها تقعد على الكنبة بوقار ،
رأسها مرفوع ترتدي أجمل الثياب وتعبق بأطيب العطور
فمسته من رأسه لقدميه قشعريرة..
لا طشت .. لا ماء … لا غسل لقدميه…
أصابه الخرس ولكن لسانه بعد الذهول انطلق على غرار العادة:

من أجمل مني؟
_ من أقوى مني ؟
_ من أفضل مني؟

  • من أغنى مني؟
    من ..من ..من

لكنها أجابت على عكس كل المرات السابقة:
هناك شخص أجمل منك ، أقوى منك، أفضل منك وأغنى منك..
( تماما كما علمتها نفيسة)
فكاادت عيناه تقفزان من محجريهما
من … من
من هو أخبريني الآن…
فقالت أخيرا :
{ غزّال الشعر في وادي العقيق}

فهز برأسه وقال :
هيئي لي زوادة كبيرة تكفي لشهر
ساسافر ولن أعود إلا ومعي الخبر اليقين
عن هذا الذي تصفين
أنه أفضل مني!


وهكذا غادر مع اول خيوط الفجر ، فتنفست فاطمة الصعداء ، وباتت ليالٍ عديدة في هدوء وهناء …
وشكرت نفيسة على حكمتها ودهائها، ودعت الله من قلب محترق أن يريحها من شر ما تحول زوجها إليه ، أو يهدي عقله فيعود لسابق رشده.
ومرت الأيام وهي مرتاحة البال ، تدعو ربها بالخير وللشيخ بالشفاء ، فداء العقول أشد خطرا من داء الأجسام.

مضى الشيخ عبدالله في طريق بعيدة عن ضيعتنا ، وراح يقطع الأراضين والبلدان ، وكان كل ما سال: من صاحب هذه الأملاك ؟
يُجاب دون تفكير او ارتباك:
إنها لغزّال الشعر الذي يقيم في وادي العقيق.
حينها صدق الشيخ كلام زوجته الصائب ، فازداد إصرارا أن يقابل أسعد من ملك مروجا وانهارا…

وبعد عشر ليال وأيام ، وصل لقصر منيف يشبه الاحلام ، فارتعب من هيبة المكان وطلب من الخدام أن يقابل صاحب السمو والسعادة.

وهكذا دخل إلى القصر مطأطئ الرأس ، يخشى ما سيلقاه من قوة وبأس ، لكنه سمع صوتا ضعيفا يسأل : من جاءنا ضيفا؟

حينها رفع الشيخ رأسه رويدا ليراه ، فذهلت عيناه ، إنه ملك شديد الحزن والكآبة.

ترى ماذا دهاه ؟

راحت الأسئلة تتصارع في عقل الشيخ عبدالله ، وكأن غزال الشعر قرأ ما يدور في باله ، بل وأخبره ببرهة عن أحواله:

تشك في زوجك الكريمة العفيفة… وقد ساقتك إلي أقدارنا اللطيفة. احك لي بلسانك لم كل هذا الشك؟فارتبك الشيخ وتمنى لو يغادر… إنه تالله في حضرة ساحر ! وقبل أن يسأله كيف عرفت ذلك ، راح يخبره بإسهاب عن ظلمه لزوجه ، وطبعه المرتاب…سكت غزّال الشعر طويلا ، وهو يحدق بالشيخ ، فشعر هذا الأخير بقلبه يطير…واخيرا تكلم يقول: حان دورك الآن كي تسمع قصتي ، عساك تدرك منها العبرة في الحال…انظر لحالي.. انا الملك الصنديد.. صاحب الاموال..القاهر العتيد اسالني كيف زوجتي ؟منحتها كل اهتمامي بذلت لها مع بأسي حلو الغرام. أغرقتها بالذهب والالماس ، وجعلتها أميرة بين الناس ، لكنها ماذا فعلت مقابل كل اهتمامي ؟. كان الشيخ مسمرا يسمع بذهول..

فراح يقول :أكمل يا حضرة الكريم ماذا فعلت زوجكم؟

_ اي نعم..كانت تضع لي دواء النوم في الشراب ، فأفقد الوعي قبل أن تشرع الشمس في الغياب ! واستمر الحال هكذا زمنا ولم ارزق بالاطفال ، وكنت انسى ما دهاني كل يوم . قاطعه الشيخ: يا لها من لئيمة! وماذا حصل بعد ذلك؟- تبعتها بعد ان رميت الشراب المعهود وتظاهرت بالنوم العميق ..كانت تسلك طريقا وعرا… وطال المسير…حتى وصلنا معا لكوخ حقير…هي سبقتني بينما تواريت خلف الشجر فرأيت زنجيا كأنه الليل الحالك.. اذا حكى ظهرت بيض ثناياه تدلت شفتاه… حوله أطفال… فراحت تعانقه بحنان و اولادهما حولهما يرددون: امي.. امي لا تتركينا بعد الآن..وهكذا طار عقلي تماما، وانتظرت حتى الصباح .

فانصرفت هي للقصر ، واضرمت النار بالكوخ ومن فيه فقد التهمتني الحسرة والقهر..وعدت خلفها بعد مدة وجيزة ، فاستقبلتني بحفاوة.. وكأن شيئا لم يكن . وانتظرت وانا في حالتي التعيسة حتى حلول المساء من جديد ، وانا هنا في مقعدي انتظر خروجها كالعادة. وشربت الكأس كله لارتاح من هم التفكير ، فربي ولي التدبير . وحين افقت في الصباح ، لم اجدها قربي ، كانت تولول في ساحة القصر ، تقطعه روحة وايابا… تارة تصرخ.. طورا تقطّع الثيابا ..

-ما بك يا زوجتي الحبيبة ؟ ماذا حل بك؟

_مصيبة… إنها مصيبة…

-لقد مات ابي وامي.. وكل اخوتي..

الله وحده يعلم ببلوتي ..

وهكذا أعطيتها الاموال الكثيرة ، وارسلتها لديارها كما تدعي حيث انه حل البلاء…وهي في دارها بين اهلها ، ارسلت لها خادمي الوفي ، يحمل سحرا حضرته لها بين كفيه .

ما ان شرعت تفتح الرسالة ، وتشم فيها وردة تحبها ، حتى انقلبت غرابا اسود ينعق…تعال انظر إليه في الجوار…

وبالفعل رأى الشيخ الغراب ، فارتعدت فرائصه ، وتمنى لو يتبخر خوفا من غزّال الشعر الخطير هذا…

وقبل ان يغرق عبدالله في مخاوفه اكثر..دفع إليه غزال الشعر بمشط عاجي ثمين مرصع بالعقيق .

وقال : خذ هذا هدية لزوجك وارحل في الحال…ولا تنس أن تطلب من فاطمة الكريمة الصفح عن أفعالك اللئيمة .

شكر الشيخ غزال الشعر ، وطار على جناح السرعة إلى الضيعة .

ما ان رأته زوجته حتى اضطربت.. وبعدها شكرت ربها وسكنت..لانه اعاد زوجها بخير وسلام رغم ما فعله بروحها وجسدها من ضرب مبرح. .. تقدم إليها راكعا يطلب السماح ، وهي بثوب ابيض كانها اليمامة . رفع اليها المشط الثمين فغرسته في شعرها الطويل وسرعان ما حلقت يمامة بيضاء…

ادرك الشيخ عبدالله ما فعله غزال الشعر الساحر
ووقفت اليمامة على شباكه تهدل بسلام:
وطارت لغزّال الشعر
ما ان رآها حتى عادت فاطمة لحالها
وعاشت مع ملكها الذي يستحقها

وفي النهاية…

عاش الشيخ عبدالله وحيدا يأكله الندم ، على ما فرط به من زوجة ناصعة القلب كالثلج .
وعاش غزال الشعر مسرورا مكافاة له على كل ما تحمّله من قلة الوفاء .
فاهداه الله فاطمة الصالحة
وديعة كاليمامة…

2 thoughts on “غزّال الشعر في وادي العقيق

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *