قهوة مرّة
ملعقة الكوب لن تنفع مع قهوة بلا سكّر…لكنّها حملتها وراحت تديرها في ليلِ أفكارها المنعكس في فنجان البنّ اللّذيذ اللّاذع، المتناغم جدّا مع غرابة تلك الأفكار المسافرة في الماضي المحلّقة فوق حدود الآن وكأنّها تستقرئ المستقبل بعفويّة وبراعة.
-ماذا تفعلين؟
-أرتّبُ يومي باستراحة بسيطة.
-أهي نوع من التّأمّل؟
-إلى حدّ ما.. ربّما..
-ما هو التّأمّل بنظرك؟ وكيف تتأمّلين..
-بصراحة، لا أفتعل التّأمّل ولا أطلبه بقدر ما هو يصنعني ويدعوني إليه، فأنا لا أتخيّل يومي بدون ساعة مخصّصة لي وحدي، لا يرافقني فيها سوى هذا الفنجان، أو ربّما كتاب، أو لا شيء على الإطلاق، وأحيانا حين أفرغ من صلاتي، أمكث على سجّادتي دون حراك أو تفكير حتّى، أجلس أو أسجد أو أستلقي..وهنا أشعر أنّني خفيفة جدا أخفّ من غيمة وأعلى منها بكثير وأقدر على السّفر إلى البعيد..
-يا له من شرح مفصّل وممتع!
-حقّا؟
-سأتركك إذا لخلوتكِ…
-لا، لا تذهب، فأنت لم تقطع خلوتي البتة…
-كيف؟ ههههه
-لأنّني ما زلت فيها بكلّ بساطة، عندما أتكلّم عنها، أي عن تلك السّعادة، فأنا موجودة بداخلها، أعيش تفاصيلها، وأستمتع بنبض هدوئها.
ما إن ارتشفت آخر رشفة حتى كانت الشمس قد ودّعت آخر مساحة مرئية من زاوية عالمنا الصغير، تاركة الرّيادة لقمر يتهيّأ ليستمدّ نوره منها وليلقيه علينا برقّة ووقار يؤدّيه صوت مؤذّن ببحّته المخمليّة المعتادة…
أدّت الصّلاة بخشوع… واستسلمت لهدأةٍ القيلولة الصّامتة..
(بينما أنت تجلس في بقعة جنوبية لبلد لا تتعدى مساحته من الكرة الأرضيّة مقياس إبهامٍ نسبةً لجسم إنسان، بإمكانك أن تلتقي بصديق يشغل مقعده القابع في غرب قارة عظمى من المسكونة، تلتقي به فكرا وروحا ورؤى… وأبعد من ذلك بقليل…)
اقرأ ايضا بيضاء كزنبق وحب لا يزول
صداقة أبديّة
لم يسبق لسهر أن كان لها أصدقاء يشبهونها ويتطابقون معها هذا التطابق المثالي، فكانت تلك الرسائل المتبادلة أشبه بالرّحيق الّذي لا يفارق الورد، فلا هو نظيره في الجوهر ولا هو نقيضه في الأثر.
لم تستدعِ هذه الصّداقة أيّ تفكير ومخطّطات، ولم يعكّر صفو ولادتها أيّ انتقاد أو اعتبار لعرفٍ وتقليد، كإلهام هبط من وحي البراءة ووقّع الضّمير اليقظ ذلك العهد المقدّس أنّ ما بين سهر وسهيل هو أرقى من الأخوّة وأقوى من روابط الدّمّ.
حتّى كائنات الأرض شهدت ذاك اللقاء ولم تعارضه ..
طيور السّماء صفّقت بمرح، حيتان المحيطات غمرتها البهجة، ووحوش البراري همهمت بكلمات مباركة هدّأت روع قلب سهر المسكين، الذي عاش لدهور مضت بين أسوار منيعة، عجز عن التحليق إلا مؤخّرا.
سهر التي حصّنت قلاعها بكلّ ما تحمله من قوّة، هدمت في برهة حجارة عجزت عن منحها تلك السعادة، ومن كان يظنّ أنّ سهر الصّغيرة الرّقيقة بتلك القوّة؟
هي
هي من كان يعلم.
وفي لحظة سرمديّة، انكشفت تلك الآمال العميقة والخيالات الساحرة والحقائق الباهرة على عالم لامرئي.. عالم المحبّة اللامشروطة.
-سهر… أهدمتِ حصونك إذا؟
-لا، ونعم..
-ماذا تعنين بنعم ولا؟
-إنّ الحصون المنيعة والقلاع الصّامدة لا تقتلعها سوى رياح الرّغبات والأهواء، فتدمّرها وتتركها حطاما..
أمّا نيران المعرفة ورياح المحبّة الصّافية، فهي لا تزلزل إلا تلك الحجارة المسنّنة التي تشوّه تلك الحصون والقلاع، وتمنع الهواء العليل من التغلغل فيها لينقى هواؤها ويعذب…
فأنا … وما إن أضرمَت المعرفة الخالدة نارها في كياني حتى أحالت حطامي رمادا وحجارتي روحا جديدة انبثقت من ذلك الموت المؤكّد.
-ولم تحمّلتِ كلّ هذا الشّقاء؟
-منذ أعوام، لم أستطع التّخلّي عن سحر هذا الاحتراق رغم ألمه.
واليوم لا أندم على ذلك بل أباركه وأراه هدية كبرى أغبط نفسي عليها.
– وهل هذه ولادة أم تحطيم؟ لم أفهم…
-كلاهما…فلكي تولد، عليك أن لا تتراجع في طريقك الشّائك مهما توجّعت، أحبّ ألمك وعانقه، ستعلو أسوارك، ثمّ سيقع منها ما عمّرته الظنون والأوهام، وما بنته تقاليد الزمان والمجتمع من قشور ركيكة ومعتقدات بالية، فالنور العظيم سيفنيها…
-كلام جميل ولكن إلى متى ستستمر تلك الصداقة؟
-إلى ما لا أعلم، وهل سألتُ من قبل متى ستولد كي أسأل عن مداها!
إن الأمور العظيمة لا تقيّد بالأمداء .. ولا تُحصى بالأوقات ..
وكذلك شعاع المحبّة يا أخي فهو ماضٍ كالقدر يرمي سهمه السّاطع حيث القلوب النقية والنوايا الناصعة التي لا تشوبها الرذائل و لا تحكمها أصنام التألّه.
في تلك البقاع النضرة فقط ستشرق شمس الحرية الأبدية الجمال وتنطفئ عقارب الوقت وتهتف المحبة أنا لكم ، بكم ومعكم والكل سيسجد طوعا لتلك الكرامات…
خليل الرّوح
يا روح ها أنا ذا المناجي له في ليالي وحدتي
أشكو أتراحا تتلو أفراحا وأنت تشهدين عذابي
أعلمتِني أن دائي هو من أسكنته في مهجتي
مباح غير مباح مخيّر كالرّاحِ بين مذمّة وثوابِ
كالدّاليات تروي عناقيدها للعارفين في الجنة
وإن ارتووا منها في هذه الدنيا فمشوبةٌ بعقابِ
يا صفوة المخلصين حالنا كمثل حال سلافتي
ما دمنا ها هنا فخلاصنا ترك الوصال بغير إيابِ
إلّا بودّ يغمر روحنا كحال ما بين الخلّان والأترابِ
وهذا ما جرت عليه في ودّك كلّ حنايا سريرتي
وإن كُشفت ففسادُ الخلّ بالتّوقيت في الأعنابِ
أرومُ روحك خلوا كعابدِ مشتاق ولن تضيّع خلوتي
سقطاتُ ثغرٍ أو أمطار دمعٍ من مُعصرات خطابي
فما عذابي الذي ذكرته والأفراح في صدر قصيدتي
إلا عذاب النّجم إذا انطفأ ثم فرحته بملتقى الأبوابِ
أبواب عرفانٍ وكواكب درّةٍ تهفو لذاك الاسم والمحرابِ
أما عن كونك داء ألا فالترياق داءٌ في جوهر الأصلابِ
يا نفحة علويّة لكوثر سبحتي
يا ضوع الشّذا لبنفسجٍ في الغابِ
ها أنا ذا المناجي لك في ليالي وحشتي
فما حُكم من كان متيّما بالرّوحِ والألبابِ؟
1 thought on “حكاية سهر”