من هوس المثالية إلى شفاء ال ( لا ) تمشي وندي في طريقها ،تبحث عن الحب والسعادة ، ولا تجدهما إلا حين تتعثر في ما يشبه ( الخطيئة) فهل تبقى شفافة كما هي بينما تعثر على مرادها وسط أشواك ما كان (وما لم يكن )؟

وندي
كانت تحلّق بسرعة كبيرة .. تتنقل كسهم من أي موضع تلمح فيه عيدان قش او كمشة قطن أو أي نسيج ملائم لتتم بناء عشّ بيوضها القادمة بُعيد أيام خمسة عشر… اليوم تحديدا يكون القمر متربعا كبد الليل ، فاردا جنحه المضيء عن اليمين وآخر مظلما عن اليسار.. وهي هي ما تزال في سعيها بين الحقل والنافذة في الأعلى… تومض كقنديل يشح زيته…
كان القنديل لا يزال صامتا على المنضدة ، هناك قرب النافذة ، على مقربة من السرير الذي تغطيه شراشف بيضاء مطرزة بالورد الأزرق والأحمر… وفوق المنضدة الصغيرة تصطف كتب الشعر الثلاثة التي لم تقرأها وندي بعد… بل في الحقيقة بدأت بواحد منها هو الرابع… كانت تحمله معها لأي مكان تقصده علّ الوقت يسعفها فيه… كانت تركض بسرعة … تتنقل كسهم من عمل إلى عمل ..من غرفة إلى غرفة …تنهي ترتيب الأسرّة هنا .. تغسل أطباقا هناك … ثم تغوص في إعداد وجبة غداء جيدة بنشاط منهِك أجبرتها عليه ظروف العمل خارج المنزل .. فهي سرعان ما تلقي بمحفظتها في أيّ مكان يختاره هو أي المكان ليحتمل ثقلها! رغم احتوائها فقط على قارورة ماء صغيرة ، أقلام لوح ، قلم أزرق ، وآخر أحمر.. هناك الأسود والأخضر أحيانا … ودفتر صغير… لكنها أي المحفظة ترمي بهمّها الغريب فوق كتف المقعد ، طاولة الطعام.. ومرات السرير… بينما تكمل وندي دورتها اللامتناهية في أويقات اليوم المتبقية حتى تلفظ آخر أنفاس التعب عند السابعة وقد استعدّ القمر معها لاستقبال هذه الناحية من كوكبنا الصغير.
ها هو حوض غسل الأطباق قد خلا من الصّحون والقدور …وكان موعد الجلسة الحلوة إما على الشرفة أو على الطرف اليسار من السرير قرب النافذة الخضراء والمنضدة حيث الكتب التي تنتظر…
تحب وندي الإستماع إلى مقاطع اليوتيوب ، هي بمثابة خزان الماء الذي ترتوي منه كل لحظة لتعوض عن خسارة الوقت في الجهد والعمل ، حتى لا تتوقف ساعتها الخاصة ، ساعتها التي تسير بهدوء على إيقاعها هي ، لا على إيقاع الحياة في الخارج … خارج جسد وندي ،خارج عقلها وروحها الزمان مختلف.. الدقائق أسرع، هي لا تريد أن تلتفت اليها ، تصفعها كل يوم بنبرتها ، بحركاتها ، بتصرفاتها وردات فعلها كأنها تفرض نغمتها على كل الاشياء المتسارعة ، هكذا وندي شاطئ يتلقف الأمواج ، وتيرة نسيم سهلة!
ماذا عن المتعة ؟ الرقص.. الجنون… السيجارة… اللهو…كلما طرح السؤال ذاته عارضا عضلاته ، أجلت الإجابة… سينقضي كل شيء وندي…متى ستجيبين ؟ وتدفن بعد السؤال كل الإجابة في هاتفها… في كتابها.. في تأملاتها الدائمة…
تتخيل الإجابة فارسا يمتطي حلما أبيض ، يرمي السعادة منديلا شفافا فوق شعرها ، ينسدل بهدوء كاشفا الخصل الكستنائية ، ممجدا جمالها وكأنه أخاذ من سر مدفون في قفير نحل!
نظرت إلى كل شيء…لم تجده مثاليا…لكنها كانت راضية..وممتنة لهذا الشعور النبيل .. لهذا الرضى المقسوم كقمر هذه الليلة! نصفين….
بينما همت وندي بفتح كتاب الشعر تضاربت في رأسها رغبتين: القراءة او التأمل… مجرد الصمت… وقد حنّت للخيار الثاني مشفقة على نفسها من تحمل عبء آخر…دون ان تشعر…وحسم هديل اليمامة هذا التضارب ، فبينما كانت ترقبها وندي في روحتها وإيابها السريعين ، ونسجها العشوائي لذاك العش على حافة النافذة الخشبية الخضراء… ربضت تلك اليمامة ها هنا ترمق عشها الذي لم يكن مثاليًّا… لكن اليمامة كانت راضية… وممتنة لهذا العمل النبيل.. لهذا الفن الذي فطرت عليه!
حملقت وندي في تلك اليمامة وكأنها في إغفاءة رغم ان عينيها كانتا مفتحتين ، وقد التهمت تلك المشاهد ساعات اليوم الطويلة ، تلك الساعات التي كان يغتصبها الشقاء بلا رحمة ، وكان يرتدي على الدوام قناعا آخر…
وقت الاصيل ، شراب خمريّ يسكب في الروح الحنين ، وبالقرب من نافذتها الخضراء يعشوشب أملٌ دائم.. امل يستيقظ مع الفجر ولا يغفو مع المغيب… لا يهدأ … يتنقل كسهم… ليكمل العمر بناء عش ما.. لا ليس مثاليا لكنه مرضيا على الأقلّ..
تسرّب النعاس لجفن اليمامة وهي رابضة على حافة النافذة الخشبية الخضراء المصنوعة من خشب الكستناء ذات الشفرات التي تسمح للنور ان يتغلغل إلى الداخل ! وللهواء أن تشربه حنايا البيت الظامئ… كانت شفرات تلك النافذة الخشبية الخضراء تعتق الأسرار… تفلتر الأحزان كمروحة…
دفنت اليمامة رأسها في جسمها المكتنز بالريش الرمادي.. وحين تكون وندي وحيدة.. تدفن شغفها في صدرها تغطيه بكفيها…وأحيانا تطبقه عيناها ذات الأهداب المكتنزه الشقراء…
لم يكن الوقت قد آن للرقاد… قالت وندي مفكرة.. وقبيل إغفاءة اليمامة راحت تكرر في أديم الصمت هديلها المتقطع الموحي بالحزن…فيسكب في كأس المغيب المهيب خمر الهدأة الشافي !
تستسلم وندي الآن لشرود دافئ يغيّب الكلمات القليلة من الكتاب التي قرأتها بعينيها سريعا..تأملت ذاتها فإذا بها توحي للمدى بأبيات من الشعر…لكم يسهل عليها كتابته! ولكم تصعب قراءته..هو الفرق بين نعمة التفريغ ومغبة التحميل… تدفن في النثر الموسيقي الكثير من أشجانها ولا تريد ان تحمل أوزارا أخرى من المشاعر.. تنساب مع الروايات وأحداثها فتبتلع مئات الصفحات في أيام معدودات… لهذه الأسباب بدأت تفكر جديا بكتابة القصة بدلا من الشعر فليكن هذا الاخير محطة عابرة… مقتضب وشرير لكي يقتحم القلب بالقوة دونما مقاومة !
لم تكتب الشعر بشكل مثالي لا… لكنها كانت راضية نوعا ما أنها استطاعت ان تشق لها طريقا… ان تغزل امسيات خاصة أثوابا جدد… أن تلعب نرد الحجارة المرصوصة على دروب وعرة…ان تكشف عن سحر عبق النرجس المضطرب وسر الحبق المخملي وشذاه.. ان تصرخ في اذن الجداول الصماء التي لا تدرك ان خريرها أطنب حواس النهارات الربيعية النرجسية…
ما إن انتصف الضوء وأطل القمر بجبهته المقسومة ، وامتزج انين اليمامة بتلك السكينة حتى غرقت وندي في حضن الوسادة ذات الريش الرمادي… وتطايرت خصلات شعرها الكستنائي .. مع نسيم أيار الذي راح يبعث بآخر نسماته بسخاء! كمودع يرسم صورته الأخيرة.. لم تكن مثالية… لكنها كانت مرضية تماما..
آدم
أنا مثالي تماما في لامثاليتي!
أعرف كيف أدوّرُ الوقت على مزاجي ، أتحكم بزمام الساعة لكي نبقى على قيد الأمل المتواضع… لكي نحيا بقليل من الخبز واللحم والأرز الأبيض الذي أحبه بجنون ، أحب ان يرافق أي طبق كان … أتذكر أنني كنت أطبخه بمهارة لي ولرفاق غرفتي في بيلاروسيا ، حين سافرت لأعمل هناك ولم أمكث سوى ٢٣ يوما بالتمام.. حين نجوع مساء كنت أعده على أفضل ما يكون ، لكنني لم أطبخ الأرز بحضور وندي ، ليس لأنها تمانع لا.. بتاتا ، لا أعرف السبب ، مرتين فقط أعددته قبيل عودتها هي وابننا آلان من المدرسة ، كانت الساعة تجاوزت الثالثة ظهرا ، وكنت تضورت جوعا ، على كل حال أنا أقوم بأعمال عديدة هنا في المنزل ، لا بد من ذلك ، أحب ذلك ، لكن إعداد الأرز ليس من ضمن مهماتي ، أحب طعمه ورائحته من يدي وندي.. وندي فقط.
في بيلاروسيا ، كنت بلا هوية ، لقيط المكان والزمان ، انا لا انتمي للبرد ، ولا للفراء ، ولا لاشتهاء الفتيات لكل عابر طريق ، تشعر هناك أنك أمام علب هدايا مفتوحة ، هذا امر يشعرك بالذعر ،لقد اعتدت ان تنتظر الهدايا ، ثم تفتحها بنفسك ، ليلة العيد ، ليلة اي شيء… النسوة مع رجالهن والأطفال يستحمون في الحديقة.. أية لعنة ! لقد شرب نظري عن مائة عام ، اكتفيت تماما… لا أرغب بضم إحداهن ، لا ليست هذه هي الطريقة التي أحب ، التي اعتدت، رباه أين المسافات ؟ اين اللغة ؟ هل أنا أخرق ؟ انا مولع بالجميلات، لستُ أبلها أو فاقدا الشهوة… أين ذهبت حاستي تلك ؟ اولاد عمومتي يشعرون انهم في الجنة هنا… كل مساء يعودون برفقة إحداهن من الشقراوات الحسان… انا صراحة أكتفي بالنظر ، لا أحب التهام الأشياء هكذا دفعة واحدة…أحتفظ بتلك المتعة لوقت آخر ، لم يحن بعد.
تذوقت القليل من الشامبانيا ، للمرة الأولى في حياتي ، البيرا ايضا ، أرأيتم كيف اتذوق الاشياء رويدا رويدا… ليس مثاليا ان لا نجرب بعض المحرمات ، لكي يعتادنا المكان ولا تلفظنا امواجه ، لا بأس من ملامسته من الأطراف..وقد حسمت مطاردتي صراع البقاء المحتدم في كياني ، لم أتقألم.. ببساطة ، لا الشراب خدر خوفي ، ولا اغرتني الفتيات او الطعام الرائع ، ولا حتى الأموال… كان الراتب مرتبا جدا… كانت مطاردة خطرة بكل معنى الكلمة ، لقد راوا ساعتي الذهبية ، مجموعة من قطاع الطرق ، عصابة من الروس ، مجرمون حقيقيون ، كنت على بعد شبرين من الموت لولا سوري لمحني ، سرعان ما راح يكلمهم بالروسية ، أخبرهم ان ساعتي ليست من الذهب وانه صديقي ، وبعد ٢٤ ساعة كنت في لبنان ، كالمجنون عدت…
عدت كمهاجر ترك كوخه الصغير المحاط بالأشجار ، برتقال وليمون ، مسكبة نعناع وبقدونس ، بضع دجاجات ومقعد ، لم يكن بيتي كوخا ولم تك لدينا دجاجات ، لكن المقعد هناك يفتقدني ، كان يخبئ لي زاوية رؤية خاصة لوندي ، في حبكة اللانهايات ، في دائرة الدوائر ، إحدى تلك السباعيات اللامرئية … خارج حواس الفكر…انا بسيط لا أعقد الأمور ولا أستسيغ المصطلحات ، لكن سكناي ووندي أكسبني من رفاهية كلامها الكثير ، التفكير الذي لا يُنطق يُرى في كل شيء…كانت وندي تلك اليمامة الوادعة التي تخفي شغبا كبيرا ، إلى حد لا يصدق ! حتى أنا .. أنا من ظننت أنني أعرفها أكثر من تلك التي أنجبتها ولم ترضعها … صدمت..صعقت…ما زلت مخدرا للآن بقسوة قراراتها التي تنفذها قبل أن تبرم ! هكذا هي وندي…هكذا أنا … بسيط… أحب منطقة الأمان ولا أريد أن أبرحها… هي .. وندي تخطو قفزات وتمسك الهواء بأطراف أصابعها بينما أعد نجوم المساء بروية..أنا.. كيما أتأكد أن السماء واهلها على ما يرام….
كيف أعجبتها؟؟ ما زلت أتساءل.. ولكم يغريني ضياع الإجابة… هذا اللغز يربطني بها بعنصر التشويق الذي يجعل لحياتي الرتيبة المعنى الوحيد….مهلا ….آدم…..مهلا…انت انسحبت من كل المعارك تقريبا… تركت المدرسة حين عجزت المدارس وفشل المعلمون وحين أضرمت الحروب نيرانها على أرض لبنان… لكنك أيضا تركت الكتب… كأنك كنت تنتهز الفرصة الأولى لتقطع أية علاقة مع هذا الفكر الكامن فيك بصمت…تركت كل عمل أرخى بثقله فوق كتفي…بعدما تركته يأكل مني من كليتي.. ولم أطوعه ليصير عبدي… بل على العكس بقيت أنا عبده حتى آخر عمل لي… لم أتركه ولا أنوي… لأنه يتحكم فيّ بشراسة… لانه يؤكد مظلوميتي ويكرس كل احتمالات راحتي..
كيف استطعت يا وندي أن تفعلي هذا بي بعد كل هذا الحب العادي… بعد ذلك الحب الذي لم يكن مثاليًّا… لكنه كان مرضيا على الأقلّ…بل مجنونا في محطات غير عادية… سواء فبركتها أنتِ… أضأت شمعاتها بفمك..تركت شفتاك تحترقان بي فأوقدتِ روحي التي لم تكتمل إلا بك…كيف استطعت أن تفعلي هذا بي ؟رغم أني بداخلي اعلم السبب ، وهذا ما يمنعني من مواجهتك… لكنني كما ترين أكتب لك ما كان يجول في بالي منذ أعوام… رأيتك تفعلين ما تفعلين بكل وضوح… لكني كنت قانعا راضيا بكل ذلك… رغما عني… رغما عن أنفي.
جنين
أطفأ الليل نجماته في تلك السهرة… فقنديل جنين كان وحده كفيلا لجعل المساء اجمل… منيرا جدا…
كل مساء تعبث جنين بساعاته القصيرة تحبكها بمغزل التعب…
هي اعتادت هذا التعب منذ الطفولة… تلك السباعية الشقية التي رفضت المكوث في رحم والدتها اكثر من اللازم .. وحين حاول الغدير أن يسحبها في الحقل… ذات ظهيرة… تمسكت روحها بهذه الحياة… الحياة التي حفرت شقاءها في ذاكرة جنين منذ زمن…
قالت لي ذات مساء وبينما كانت تحبك كنزة لاختي سارة : انا لا أحبها ، فهي لم تحبني يوما… حرمتني المدرسة…كانت ترمقني بنظرات قاسية ملؤها الكره.. لماذا..لماذا ؟ لا أدري ولا أسامحها.
لقد حملت الكثير …
أشعر أنني أوتاد حقيرة لكن متينة..وفوقها تعمّر الكون…
أشعر أنني جبل تم حفره حتى الأعماق…ومع ذلك بقيت جوانبه قائمة تسد الريح العاتية…
أشعر بنبض فيّ نحوكم وندي.. نعم نحوكم…لكنني عاجزة عن القبض عليه بأوردة قلبي…هذا القلب الذي تُرك وحيدا جدا….
حين أحببتُ والدكِ يا وندي اعتقدت أن الحياة ستبتسم لي…لا أدري كيف أحببته…لكنه ساعدني على ذلك…كانت نظراته لي شافية…هو من لفت انتباهي لوجود قلب في داخلي…
لكن جدك وجدتك رفضا هذا الحب… ظنا منهما أني سأعيش تعيسة مع والدته القاسية…كأن القسوة كانت طبعا سائدا في زمننا… شرا لا بد من وجوده… سما دفينا موروثا حتى العمق!
ويا لتعاسة خياري هذا…ويا لنكبة إصراري…فمنذ وطأت داره…دار والدك ، بعد وساطات مع جدك الذي رضخ لالحاحي ، بدأت ليال سوداء لم أذق معها طعما للسعادة…
هنا قررت أن أتركه…لا تتصورين كم كانت عودتي إلى بيت والدي صعبة…كنت بين جهنمين أتنشق رائحة حريقي فحسب… كنت أصهر وأصهر ألف مرة ، كمن يحترق ويبدل جلده بأمر من حراس النار…. هنا صرخت من اعماقي…لماذا ولدنا؟ لماذا ؟
لم تكن تلك أما…لاما حضنتني وما أرادت ان تسمعني ..لم تكلمني..لم تسألني ما بك…لا بل سألتني ألف سؤال بعينين ملؤهما القسوة بلا أي حرف…تقول فيها عودي أيتها الساقطة لبيت زوجك فأنت من اخترته…لا مكان لك هنا في هذا البيت…هناك اخوة سبعة يحتاجون إلى رعاية… حضورك ثقل على قلبي وفوق جسدي ظلك يربض كجزيرة منفية…اغرقي بهذا الماء حولك..لقد لفظتك كما تلفظ الأمواج أسماكها النافقة..لا أحتاج نافقات في داري.أمام عذاباتي كان أبي يقف مدافعا ضعيفا بلا قوة غير الحنان الذي يفيض من عينيه الزرقاوين..كان سمائي..لكنها كانت بعيدة تلك السماء عن أرضي..لم تهطل علي بالأمان…ورغم ذلك …ما زلت لليوم أتوسد زرقتها ورقتها..تلك السماء الشفافة..خيمتي ومنفاي.
عدت لبيت جدتك بعد سنة واحدة من زواجي ،وأي زواج! كنت مجرد خادمة بالنسبة لهم..بينما كنت في داخلي ملكة هاربة من زمن آخر سقطت سهوا على أرض محروقة بعد حرب ضروس… وحين سقطت من كوكبها اذاك قبض عليها آخر الغزاة واقتادها إلى حظيرة ذات سور من حجارة..لم يكن خشبيا كعادة أسوار الحظائر..هي حظيرة تدعي انها منزلا دافئا…وكانت هذه السجينة ، تغسل الأثواب ، تدعكها بيديها الصغيرتين بينما هي ترتدي ثوبا كريميا جميلا ، وتثبت خصلتين من شعرها الأشقر الكستنائي بدبوسين صغيرين…لم تعد تشعر أنها جميلة كما تقول المرآة… بعد كل غسلة تغسلها لأثواب قذرة ملطخة بوحول الحقل…بعد كل غسلة لجبل من الأطباق والقدور البالغة القذارة ، حيث تلتصق في قعرها حبات أرز محروقة…واخرى طبقات وطبقات من الشحوم الحمراء بلون الصدأ…تماما كذلك الصدأ الذي راح يلتصق في قعر روحها وجسدها وأفكارها.
مرت أيام ها هنا في منزل أبي أيام ثقال… كل دقيقة لها وزن كنت أفقد معها بقايا أمل وشذرات سعادة… سعادة متخيلة فحسب… لكن قوة غريبة عظيمة كانت تدفعني قدما… تدفعني كأنها وقود لا ينبض وكأني القنديل الذي ولد لكي يضيء للأبد.بدأت أشعر بالغثيان ، لم يكن الاحتمال واردا بالنسبة لي لأسباب كثيرة تخص علاقتنا انا ووالدك… ولكن الاحتمال اللاوارد فرض نفسه ووجدتني حاملا بك وندي… لكِ أن تتصوري بقية ما حصل آنذاك… لا لم أعد…قاومت كثيرا ،تحملت عيني أمي… لكن لم أشأ العودة…حتى والدك لم يعد في نظري كما كان.. ذلك الحب حلت محله صور ومشاهد قاسية عشتها عاما … عام بألف عام …-ألم يكن والدي مختلفا عنهم…-انسي يا وندي… انسي الأمر…بعد ولادتك ، مباشرة ،وصل الأمر إلى الذورة صارت أمي أشد قسوة… ووالدي أكثر حنانا… في غيابه أعاني المرّ …وتوسط أقرباء بيننا أنا ووالدك… وحين جاء…وافقت.. عدت…لأجلنا انا وانت…. واستمرت الحياة… وجاءت سارة بعدك… تعرفين بقية الحكاية.
الموت
الموت …اول الصدمات وآخرها… نافذة خوفي ، رهابي، وكل معتقداتي القادمة…ارى الجنازات أمامي ، كانت في طفولتي أقل عددا ، ربما جثتان شهريا تسجيان إلى التراب… وبعد مدة تضاعف العدد… لم يكن مهما امر العدد… سؤال واحد عميق… إلى أين يذهبون ؟ وماذا بعد ؟ أسئلة الجميع… وكان الدين كفيلا بإيجاد الإجابات المهدأة لروعنا كلنا ، مع تشويق بطعم الرعب ، ففي داخل الحفرة سيأتي ملكان شريران يطرحان الأسئلة ، وأنت تجيب ،يسقيانك ماء عذبا إن استطعت النطق ، اما إذا نسيت الدرس بسبب الخوف فستجرع نارا… تماما كما تجرعت العصا بعمر التاسعة في حصة الجغرافيا لأن المديرة شخصيا قررت وقتها تسميع الدرس ، وانا بطبيعتي المرهفة نسيت الكلمات والمفاهيم كلها حالما تسرب عطرها إلى دماغي ، دخلت الصف تماما كأحد الملكين ، ربما كانت كلاهما معا… وانا صرت مكفنة بكل انواع القمع الذي عجن مع براءتي… وحيائي… لم أصرخ في وجهها : أيها الملك اللعين… أيها القبيح… نسيت الدرس… فلتحل عليك اللعنات وعلى جميع الكتب التي سطرها قادة الرعب المقدس.
بعمر التاسعة أحببت الله الجميل ،الذي الجأ اليه كأبي ، كصوت أعلى من صوتي وفضاء أشد رحابة… كاني السحابة والصلاة مطري.لم آبه بهاتيك المخاوف… ولا بأفلام رعب تجار التاريخ والسياسة… نفذت بجلدي منهم كما ينفذ الغزال في ساح الضباع… لكن الهواء الفاسد لا بد ان يلوث أنفك على الأقل إن لم يصل الرئتين.عندما تسمع لآلاف المرات أن قدميك ستحرقان بالنار إن لم تغطيهما تماما بالقماش ، وكذلك شعرك … ستحاول أن تحترس وإن قاومت تلك الأفكار لسطحيتها بنظرك… ستواجه جدالا مع داخلك… مع تلك الآية ( الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم كبر مقتا عند الله وعند الذين آمنوا كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر ..) ليس مزاحا.. هو كتاب مقدس وانت تواجه ما تظنه آيات لا جدال فيها ، اي كشف شعرك..قدميك…التزين…تتعب…إلى ان يأتي المنقذ…هو الذي يدلك على ذاتك انت …يخبرك انك اقوى واقدر مما أخبروك… وانك صديق الله ،تستطيع ان تجادله وقد تصلان إلى تسوية !
اذكر أنني بعمر السابعة عشر قصدت شيخا لأسأله ما سبب إفطار المسافر رغم ان السفر غير شاق… عدت للمنزل بلا إجابة… ومن حينها وقبلها بمدة بدأت قشورهم تتساقط ، بدأت غباراتهم العالقة بفكري بالزوال ، كنت اغسلها بالتفكر… بالموسيقى وبعض الكتب الجميلة… كان اغتسالا طويلا… فالوحل لا يتركك تنفد بسهولة!
لماذا كل هذا الحزن؟ألف عام واربعمائة وما زلنا نبكي ونرتدي السواد ، لم لا نحتفي بتلك الكرامات… لم لا نرقص ونضحك..لم لا نتقن الفرح ؟لان من علم بعضنا ان يقطع الراس علم آخرين ان ثمن الجنة بحرا من دموع…ها هنا يفيض نهران… نهر دماء… نهر دموع وشقاء… وتقف الدنيا عاجزة امامنا…. تقهقه بسخرية… لقد اوجدتكم لتعيشوا… دعوا الموت يأتي بهدوء…لتعودوا بهدوء.
حين سمعت قصة الشابة المتوفاة ، لم أعد كما كنت…في منزل صديقتي سمعت أشياء غريبة ، المخيف أنني لا أذكرها ، المرعب ان آثارها ولدت في حزنا عميقا…عميقا…صرت ابحث عن السعادة فإذا بها تهرب مني كلما طاردتها.. حبست نفسي في قفصها ،وتركت الشجر والطيور…
لا اندم على شيء في حياتي ، فقد كانت كل العذابات التي عشتها في داخلي جسرا خفيا لما هو آت.لقد اختبرت كل الاوهام، ثم كسرتها ، كما يكسر ضوء القمر صفحة العتم…جميلة تلك الظروف التي تشذبك ، تقلع منك الاعشاب الضارة ، تعود شجرا غضا…لم اعد سوى تلك اليمامة التي تربض بسرور على حافة نافذتي بلا هم….تسبيحها جميل… ترتيلها أخاذ… كما تسبيحي.. نظر.. همس.. نفَس.. إغفاءة…إيماءة… فكرة..نية..حب… مجرد حب… بلا خوف…
كرمة العنب
فراشة تبدو وندي في ذلك الثوب الزهري ليس زهريا خفيفا بل فاقع الزهرة ، طياته كثيرة ، عندما تتحرك تبدو كزهرة مع جسمها الرشيق المكتنز عافية…كنت أفخر بها ، بهدوئها ، باتزانها منذ الصغر… تذهلني رقتها ، اعجب ان تكون لي ابنة مثلها… كما اعجب بسارة وذكائها وبقية بناتي… لكل واحدة منهن زاوية خاصة في جسدي وفكري… رغم اني لا اتقن التعبير عن ذلك لهن بتاتا… لكن ما احمله في قلبي اكبر مما يظنن بكثير…حين كانت وندي تزهو بجمالها الزهري في ظل عريشة العنب ، لم احتمل نظرات صديقي ، ناديتها ، طلبت منها ان تصعد لفوق… للمنزل… تعجبت من ردة فعلها المتفهمة ، اذ ادركت مقصدي وبدلت ثوبها برضى… كانت لا تحب إثارة أي كان ، رغم صغر سنها كانت شديدة الوعي والذكاء…هي من أعادتني إلى جنين…لم آبه في البداية أنها تركتني ورحلت.. كنت أستحق ذلك… الألم الذي أعيشه يوميا مع والدي ّ جعلا مني رجلا قاسيا وصامتا… كنت افرغ مآسيّ بقبضة يدي… أنهال ضربا على جنين.. كلما أحسست بقوتها ومقاومتها لظلمي… لظلم أمي.. كانت صفعاتي لها تخرج الوحش الكامن فيّ… تمنيت لو لم تعد.. لترتاح مني…من امي…من تلك الحظيرة باسم بيت العائلة… احببتها كثيرا رغم عنادها الشديد… لذا تمنيت لو يحميها القدر مني ، لكن والدتها كانت قدرها القاسي ، أعادها لي… تغيرت… ولكن بعد وقت طويل….سارة تشبهني قليلا… وندي تشبه والدتها أكثر… أليف بين – بين…. أليس لها طباع وشكل خاص…اما داني فهو تلك النسخة المكررة عني مع بعض التحديثات…
في ظل عريشة بيت اهلي كانت العناقيد تجمعنا بحباتها النضرة الخضراء بعد اعوام من الظلمات… خرجنا منها أشخاصا آخرين… لقد اختزلنا مرحلة انسان الكهف ، فالمزارع ، فالمتحضر… تحت تلك العناقيد تناولت أمي العجوز اعواد مثلجات تنتمي لقرن آخر… بعدما كانت لا تعرف سوى الحقل… والرضاعة.. وتولي زمام الأمور… كانت رجلا في جسد امرأة… شديدة الجبروت ، تامر وتنهي كأنها هاربة من جيش عثماني لا يخاف ولا يرحم…. آه…كم مرت علي من امسيات تبدل فيها جلدي فإذا بي بعد كل أمسية أتدحرج… وأكبر… أجمع في مخيلتي صورا جديدة ، هرعت إلى الحقل صديقي ، أبثه قهري ،فلاحة وعملا… لكن بلا أم تمعن في ضربي إذا خالفت الأوامر… كانت تضربني بقسوة أما أخي نديم ،فكان مدللها ،كان بارعا في اصطياد الفرص كما قلبها…لا تسند اليه الاعمال الصعبة التي بقيت من نصيبي ،حتى تزوجت ونجحت جنين بفصلي عنها… كان ابي ذا شخصية لكنه امام امي كان يبدو ديكا منزوع الحنجرة… لا اقول تبا للنساء… بل تبا للرجال الذين يتخلون عن ذلك المقعد المخصص لهم ، كانهم يفضلون اخذ قيلولة بلا نهاية… وبين الحين والآخر ينفسون رجولتهم بزمجرة وضرب وعبوس…
بيني وبين آدم ألف طريق
اليوم حين رأيت اليمامة تستعد للرحيل بعد أن فقست بيوضها ورحل الصغار ليشق كل منهم طريقه الجديدة ، أدركت أننا كتلك الشرايين الممتدة على محيط جسدنا العظيم الصنع…. طرقات…مجرد طرقات لامرئية تتصل بآخر نقطة من هذا الكون بلا بداية معروفة… وأدركت أننا في النهاية سننفصل عن كل ما اخترنا وكل من عرفنا لنصب في الطريق الرئيسي الأوحد..نحن ..ونحن فقط…
أدركت أن حبنا لكل من حولنا هو تمويه ذكي لحب واحد فقط..ذاتنا..
انا كوندي أعتبرها مقدسة…
قبل آدم مر في دربي ألف آدم وتساءلت كثيرا… من يريد قلبي؟
لكنه هذا القلب كان يافعا جدا ، لم يهتد لمحبوب غير هذا اللامحدود… كان قلبي لاأرضيا… رغم أن جسدي بات يهفو للدفء والحنين.. الا أنه هذا القلب كان دائم التحليق كيمامتي تلك… وصغارها…
ألم تكتمل صداقتنا للأبد…
في تلك الأمسية ، حين عدنا من طريق المشي أنا وجاد وأختي سارة ، كان القمر بدرا جميلا ، يوحي بالكثير من الأسرار المكتملة الغموض ، الأسرار لا ينبغي أن تُفضح ، لأنها تستهلك كل روعتها وتتبخر!
كنت منذ طفولتي أعتبر جاد ابن خالي ، صديقا…أخا.. أغضب من حرصه الشديد عليّ ،وأحيانا كثيرة يروقني حين نتبادل الكلام ، نشعر كلانا أن الوقت يسير بشكل أسهل…
في تلك الأمسية فضح جاد سر قلبه لي… ولم يدرك أن المكنونات لا يجب أن تخرج من مخائبها بهذا اليسر! دعكم من الواقع.. الخيال مفتاح الحياة ، لا يتفلسفنّ أحدكم ويقول كوني واقعية هيا… خذي الأمور ببساطتها… منذ متى كانت الأمور بسيطة؟ كل شيء معقد متشابك… نحن في الداخل خلية من أعصاب ،تخترقها آلاف السيول الجارفة وتهب عليها ألف عاصفة في اليوم… من يستطيع منا أن يفكك تلك الشيفرات المعقدة؟ لا أحد… أجزم.
ليأتي جاد ويقول لي أنا أحبك يا وندي ،هكذا… دون أن يكون حاذقا ويتوقع ردة الفعل… فهو يستحق إجابتي القاسية… أنا لا أستحق منه هذا العبء المضاف ، لا أدرك للآن كيف كسر صداقتنا بهذه الطريقة وانتقم أشد انتقام على جريمة بحقه هو من ارتكبها…
لعبة الشدة
مشروع جيد لحب أول لم يولد ، كتب عليه الموت منذ اللحظة الاولى.
لمحت أمي نادر ،صديق أخي داني وهو يتأملني عندما كنت أقدم أكواب الشاي للجميع… كانت الغرفة مكتظة ، أنا ،أخوتي، أمي،أبي… ونادر… وبعض الأصدقاء الآخرين ،كان نادر أكثرهم ترددا لمنزلنا يوميا تقريبا ، وكانت السهرات التموزية تحتفي ككل عام بتوديعنا للمدرسة ، كنت حينها في الصف التاسع ،أي أنني صرت ناضجة ، لا بد أن تستعد الفتاة في مثل هذا العمر لاختبارات الحب والارتباط والخطوبة ، الا أن هذه الشرائع السائدة كانت على إغرائها مستعجلة جدا في القدوم إلى جسد غير جاهز وفكر غير حاضر بتاتا…اربعة عشر عاما ،أي لدي في رصيدي أربع سنوات فحسب وتصدر نتائج الفحوصات المخبرية الاجتماعيه: قابلة للحب… فاشلة…
هذه التحديات الشائكة المغروسة في أعماقي حرمتني متعة عيش اللحظة… ببساطتها.
نظر إليّ نادر ، علق عينيه فوق هالتي الشفافة ، أحسست بثقلهما ، بخدر وخفر… عشت الشعور لدقائق لم تحسب من عمر الزمان ،وبعد زمن ، تناول كوب الشاي ، أخيرا … رشف منه رشفة .. سحرني بتعويذة ما… جسلت قريبا منه وعلى مرأى من أمي التي كانت تلحظ المشهد ولم ألحظها حينها… في اليوم التالي ،سمعت وشوشاتها مع أبي ،وأخي داني ( أخبره أن لا يعود إلى هنا.. )
لم اشعر بحزن كبير ولا تعاسة.. كنت ما بين البين ،كالمنضدة، والكرسي الهزاز ، كتلك الشمعة التي تضاء اذا ما انقطعت الكهرباء… كسجادة الصالون الخمرية… كلوحة الأم الحزينة التي تختصر عمرا من البكاء غير المبرر.
أسرعت إلى غرفتي ، فتحت ورقة مهترئة لشدة ما عليها من أرقام نتائج لعبة الشدة ،وما بينها كلمات لأغنية قديمة تنضح بالحب ،حاول نادر اخفاءها كما يخفي اللصوص الذهب بين حبات الأرز البيضاء ، دفنها في عمق البياض ، وطاف السواد على السطح ليخفي كل المشهد… المشهد الذي كان يحاول أن يتنفس الحياة بصعوبة ، ان يستحضر الحب ، ان يفسر معناه، ان يكشف هذا اللغز الذي يربحك الجائزة.
عروج جميل
جميلة هي الحياة ، حين نشعر بلطافة كل شيء ،لن يستطيع الخوف أن يلمس قلب المتأمل في كل شيء… بعكس سارة كنت أواضب على صلواتي، ومنذ البداية دون أن تكون ثمنا لشيء منتظر ولا خوفا من عقاب… كنت أحب هذه الخلوة ، أحس أنها تفريغ لحواسي المثقلة بالأفكار والمشاهد ، حتى عندما بالغت في عكوفي هذا بعمر أكثر تقدما ، ربما عند السادسة عشر وحتى السابعة عشر من سنيّ لم يكن الأمر خوفا ولا تعصبا على الاطلاق ، بل كان صورة ومرآة تعكس بلوغ صراعاتي النفسية والفكرية أوجها… كنت أنضج بشكل مضطرد، أهضم الحوادث من حولي ، أتنشق فضاءاتي وأزفر منها ما لا يلزمني ، وكلما مرت سنة ، تبدلت الزفرات ، وتغيرت طبيعة النّفَس الذي أحتاجه… تبدلت آرائي وتوجهاتي بشكل كثيف ، كنت أظن الأمر معه ضربا من الجنون أو عدم التوازن ، لاحقا جدا أدركت أن هذا من سمات الوعي والتطور. هذا حسن..أنا راضية إذا عن كل ما حدث لي في الداخل ،لا ضير من التغيير.
لعبة التصفيات النهائية
تقدمت عامين آخرين ، اشتريت مجموعة كتب ، لتكون صديقتي ، حاولت ممارسة لعبة الحب عن بعد… إنها الطريقة الأسهل لكسب الجولات ولو من طرفي…
عندما غضب مني جاد ابن خالي لاني قلت له : انا اشعر انك أخي… هيا انسى هذه المزحة ، كنت أخوض تلك اللعبة الافتراضية ، وودت ان اجرب لو كان قلبي صالحا للاستخدام ، وثبتت صلاحيته ، ممتاز … لا يهم من يرحل… من يأتي… المهم ان النبض شغال ، وساعتي غير معطلة.
بينما كنت أخرج من تلك التجربة التي عشتها بعد رحيل نادر من لبنان ، رحيلا نهائيا وقاطعا ،لثلاث سنوات متتالية، لم يكن الخروج بتلك السهولة التي تخيلتها ،لقد عشت تعلقا موجعا ،ربطت حياتي ولحظاتي ودقائق انتظاري بشخص لا أبوح له بشيء ، ولا ينتبه لي من الأساس ،كان هدفي ملء وقتي ، وتجربة حواسي… هو أحمد…
كل من كانو يتوددون لي… يلاحقون ظلي… نسيت أسماءهم ، بقي اسم واحد يتردد في وحدتي ، نادر ضوء خافت ثم أحمد.. أحمد قنديلٌ قويّ أضاء عتمتي لسنوات ثلاث ،أعمى إرادتي عن أي كائن آخر.
حين عدت من فقدانه هو أيضا ، كسروة ضربتها الرياح بقوة ، تشعر بدوار السفر من ريح بحر فاض فجأة… كان آدم.
حريق في البرية
كنت مستغرقة مازلت بروح أحمد ، أناجيه كلما اختلى المساء بقمره ونجومه ، كأني العابد وهو المعبود ، أرتشف منه رحيق الحياة ، وأشفى به من كل مرض ينتابني حين يأتي الحزن على غفلة… وبينما أنا في هذا الوادي ، أمر بين جبلين والطريق تبتلع سيارة أبي ، رأيت آدم ،جارنا… كان يقصد هذا الوعر الذي يحترق بفعل الحرارة ، تجمهر كل أهالي البلدة ليشاهدوا لهيب النار التي صارت تلتهم الاشجار ، كأنها في مشهد هرب من قارة أخرى حيث البراكين تعيث في الأرض فسادا… لم يكن في السيارة سواي ، أبي وأمي… هرعت معهما لأشهد ما حصل… بينما بقي الجميع في البيت آنذاك….
وعلى الطريق التي تفصل ما بين المنازل المتجاورة في عام آخر… كنت فيه أغرف من صمت أحمد قاموس كلمات جديدة ،ومشاعر لم أختبرها من قبل ، وحيلا كثيرة لاستراق اللحظات… لحظات اللقاء من جانب واحد ، جانبي طبعا… كانت ملامحي هادئة… كان أحمد معتصما بحبل ذاته ، لا يبرحها الا لأماكن مجهولة لا اعرفها… كنت أفترض اهتمامه بي وملاحظته لي .. اما هو فلا ادري …كنت اتمنى ان يبقى الامر سحريا هكذا وخياليا مناسبا لطقوسي… ملائما لطبيعتي الساكتة.
كنت أشق الطريق مع اخواتي ، مبتهجة باللون الأزرق الذي يريحني ارتداؤه.
رأيت آدم … كان يرمقني بتمعن … ،هالني الأمر ، شعرت بانزعاج .. بنشوة انتصار… بين رغبته بي .. ورفضي…
أنهينا مشوارنا، بضحكات مكتومة…
وعلى الطريق الطويلة المتعرجة كأفعى، حين عدت أدراجي من مأتم آخر أوهامي وربما أولها… هاتفتني أخت أحمد ( هل تقبلين أن يحدثك ولو لنصف ساعة…؟)
انا حقا أجهل حقيقة تلك البرتوكالات والعادات والتقاليد… لكنها بمفهوم الفتاة.. بمفهوم وندي… ليست سوى عجزا عن المواجهة…
كان احمد مثلي يبحث عن حب.. ويخوض تجربة…لكنه هو من رأى وانا من أغمضت عيني … آدم… لقد تعبت..
إنها مرحلة التصفيات النهائية ، بلغت العمر المناسب للمشاركة في اللعبة… التاسعة عشر ، الرقم الفاصل بين العزوبة والعنوسة… لن يشفع لك وجهك الجميل ولا قلبك طفلة ، او حتى الف كتاب ومئة الف كلمة ساذجة… ومليار حكمة عن اعتبارك فتاة…مجرد فتاة لم تجد رفيق حياتها بعد.
اللاشيء
انا لاشيء….هكذا ترينني أيتها الفاتنة …بلباس بيتي أصفر…يميل إلى شعاع قنديل في أول انبعاثه…نقي…شفاف…يظهر الحزن المتخفي بداخلك خلف اجتراح الابتسامات الهادئة….هذا الإهمال الذي أبديته لي منذ أول لقاء…وندي…كان ليشي بما ينتظرني…ولو لم يكن موعدا مبرما…ولو لم تكوني على علم بقدومي…لكنه كان أمرا متوقعا…وأنتِ حضّرتِ للمتوقع اللاشيء عينه الذي رأيته في حضرتكِ…
لقد زرتُ معبدك وهو خاوٍ بعد ان مضى منه الماضون وخلفوا في حنايا الجدران رسوم الأثر العميق…وطقوس الحب الذي لم يعد…جئتُ لأؤدي صلوات عشق ما مفترض…فوجدت الإلهام وحده مضاءً كمتوحد في غار بعيد…ينوي أن يتنسك…حاولت الإمساك بكِ؟ لا…كنت الخيط الأقوى منذ البداية…خيط الليل الجارف…وانا فصل النهار…تعلمت منك اشياء كثيرة… اعظمها القهر…وأنبلها الانتظار…
لم أكن تلك الخميرة التي تشبهك كيما تمضي في العلن سبيكة حلم طازج…أبقيت على قلبك عذريا وحشيا لا منغمسا في أحابيل العشق…
ومرت سنون وأيام ودقائق بعدّها العكسيّ بيننا كأننا اصطلاح شرقيّ قديم…
حاولتِ الحب أكثر مني… ولم احاول لأني أنبض بك ولا يبان عليّ وهذه مأساتي…
هذا الخوف…هذا الخوف الذي تجسد عاريا في صدري للعيان..عاريا…كان يحفر في صدرك غلّي واحتقاري…
وندي…هذا الخوف منبّت في أصلي كفرع أصيل…لا أقوى على قطع أصلي…كوني أنتِ تلك الفروع التي أخالها في العراء يمّي وواحتي…انا عطش وانت ماء كل الكون…وهذا ما جعلني أحتمل كل محاولاتك المكشوفة لحبي…راقني أن تتعلقي بحبالي الواهية… ولم يزعجني اني غير محبوك جدا بخيوط أفكارك…يكفيني أنك بشباكي قد سقطتِ عمدا…لأن الطقس في بيتك بارد جدا…خلتِني معطف بردك..اولم أكن؟
حقدك على جفاف مخيلتي من إبداع الفرح يثكلني…ولا أعترف لك عمدا…كي لا أموت مرتين…
لقد مت بك حين لمست يدي دون احتكاك لمّا قدمت لي خبز الأمل بأن أحظى بك…وانا رضيت بهذا الموت فلا تعجلي عليّ بموتي الجديد الذي لا أرغب…موت رحيلي عن وجدانك…وهجرتك الموسمية…
لا أدري لم هذا التشابه في الحوادث والأسماء بيني وبين آدم تفاحة وأنت وأرض سقطت عليها ولا أريد العودة!
في رحلتك معي الممتدة لسنوات لم أعطك ولو وردة…
أتعرفين لمَ ؟؟
لأني كنت أنتشي بمرآك وانت تقطفينها وحدك…حتى دمعك كنت أحبه…حتى جليدك الساكن تحت الجمر البادي…
لا داعي لأن تحبيني…يكفي أني أحبك..يكفي أن أحبسك في هذا البرج الخاوي… يكفي أن أرى صبرك نحوي…على هذا النحو….وانت بين صفا فراغي ومروى خضوعي حائرة…
ولكن ما لم أحسبه يوما… أن ينمو جنحك خارج عشي الصغير…ولا أحسبه سيطير ولو نما…فانا اختبرت عفتك تلك…وسأحرق كل الغابات كقسم إن أنت تجرأت… ورحلتِ !
ان تتجاهل انك ستحتاج اليوم او غدا إلى شخص يشبهك إلى عقل يحاورك ولا يمل من تبادل الأفكار ويزاحمك على مشاعرك..يقهرك…ليشعل فيك ذاك الحب..شعلة الحياة تلك…
فاعلم…اعلم جيدا … انك ستعاني جدا…
ستهنأ للحظات أن الهدوء يعم المكان ..ستتوهم ان كل شيء على ما يرام….وبعدها بمدة سيشتعل جمر يحرق كل ما فيك…
وأخيرا ستصبح كاتبا او ستصاب بالجنون.
وكلاهما تحقق.
الليالي المظلمة
لقد ظننت أن محاولات حبي لآدم ستثمر… لكني لم أتنبه إلى ان مجرد المحاولة لا تفي…ماذا فعل هو..ليخدر على الأقل بقية احتياجاتي الجائعة ما خلا الحب…
لا شيء…
كان الطقس خريفيا ناعسا…وكنت أحب البحر…ولا زلت…
تخيلت مشهد خطوبتنا هناك على الرمال…لكنه كان مشهدا مالحا في خيالي…حفر للحزن بئرا عميقة… لم أصرخ…لم أنفجر…لكنني تكلمت…لماذا؟
قال آدم حينها… هكذا…عزيزتي…لا مجال للأسف…قضى ساعات رتيبة ومضى إلى مأواه الأخير…حيث السكينة المتعبة… لم يرسم الأمواج حتى على صفحات مخيلتي…لم يداعب شعري والنسمات البحرية…لم يهاتفني…او ربما…ولكن بأنفاس مبتذلة…عفا عليها الدهر ومات… سكين حقدي تحفر في الوديان أنهار سبات…وانا سبات طويل يجمد عمري فلا أكبر…بالقوة…لا أكبر…لأني أريد أن أقفز فوق حبال الفرح يوما… وأجدّ في الطيران أجدّ…أجدّ…فلا فارق بيني وبين عصافير الجلالي المزروعة قمحا…المروية بنبيذ الغسق…سأبقى لأسكر من كل رحيق…وأجد..أجد..وأعبر كل طريق…
أرأيت آدم…كيف سعدتُ…حين حظيت بألف صديق…وألف ألف صديق…ولم أشبع…سأحرق ورق صمتك هذا وأشعل جمر الليل بخوفك هذا…وأحتسي خمر كتابي…
ابق حيث تشاء بعيدا…على مسافة…احظ بغضبي…ومفاتن جسدي…لك تلك النيران… ولي نعمة سموها النسيان وانا وحدي لا أدري كيف تُؤتى!
غريب
-دعيني أغمرك قليلا…
إن الآس يعبق في بوحك…
-ابق على مسافة أيها البعيد…
سأنسى اسمك…ويبقى رسمك محفورا رغما عني…
هكذا تأتي كخفق جناح..بلا إنذار؟
أوهكذا يُجزع ملك الموت ضحيته قبل الإعصار؟ ابق قريبا فالبعد لم يجدِ نفعا…
جربت حتى الكيّ فصرخت من أوجاعي النار…
سمعت وندي هذا الحوار بين يمامتين كانتا تحلقان غير بعيد من النافذة ربما تكون إحداهما فرخ من ذياك العش الذي كان هنا بُعيد شهور…
أحست أن كلامهما نزع عنها قميصا آخر… قميص بدا لها من قبل ناصعا…والآن ترى فيها جسدا آخر أشد نقاوة.
المعلم
انت لا تختار معلمك
هو من يختارك.. بل الطريق يختار كليكما
يومض من بعيد..يرف جناحه فتلمحه أنت..يخفق فيك شيء جديد..
تطرحك الأسئلة بدل أن تطرحها…وسرعان ما تجيب الروح… ينهض وعيك فجأة ليخبرك أنه هنا…وأنت لم تع ذلك من قبل…يهديك باقة آلامك على شكل باقة من ورد…
إلى أين الطريق…
لا تريد جوابا..تريد فقط أن تحيا عظمة تلك اللحظات الخالية من ثقل الزمن…
هكذا كتبت وندي قبل ان تخلد للنوم في هذه الأمسية.
لكنها وقبل أن تلامس رأسها الوسادة المنتظرة… نظرت تفكر قليلا… تنظر إلى آدم…لقد كانا قبل ساعة من الآن معا في جلسة عائلية ، سهرة تحت السماء ، يقطع هدوء الليل قضمات من هنا وهناك…فاكهة ولوز ، وفنجان قهوة ، أحاديث متوقعة في هكذا أجواء مع تحليلات بسيطة ، ثم ماذا… ها هو ينصرف تماما إلى هاتفه.. ليتابع آخر أخبار النهار المنصرم ، وأنت لك عدة خيارات يا وندي وكلها جيدة: قراءة كتاب مركون قرب السرير، متابعة قراءة كتاب الكتروني عبر الهاتف، الاستماع إلى آخر مواقع الفلك وتأثيراتها على الابراج… والتأمل…والتواصل نحو البعيد البعيد…
تراه البعيد أقرب من القريب لأن المسافات سحرية…أم لأننا عمدا او بغير عمد حولنا أيامنا لأقفاص ولحظاتنا لجمود حين اخترنا ولم نتخير حين اخترنا من يشبهنا من نستطيع أن نتشاجر معه لنملأ فراغ الصمت ببعض الضجيج ولكي نطفأ نيران الضجيج هذا بحديث صمتنا…
وندي ..نامي الآن..فلنأجل القراءة ليوم آخر… في قلبك عطر باذخ يكفيك كي تنعمي بليلة هادئة.
إلى متى سننام قبل أن نكتب حكاياتنا الطويلة ولربما العميقة أيهما أكثر شساعة يا ترى طول وامتداد تلك الحكايات أم عمقها السحيق؟ لا أعرف…
لشدة ما حرمتني مراهقتي نعمة النوم أشتهيه اليوم بقدر هستيري لولا هذا الهوس بالخلود إلى تلك الوسادة والغرق في نعيم النسيان والهروب من حبائل الفكر لكنا كتبنا وكتبنا بلا توقف…كم من القصص تأجلت وكم من الكلمات بخرها الوقت الضائع في ساعات النوم..تلك الساعات المقدسة..ذلك الكسل اللذيذ الذي يهبنا فرصة التخلي عن الطموحات الزائفة ويترك لنا مساحة الحرية التي نتمنى.
هل انت معلم كما قالوا لي ذات مرة؟
ام انت نجمة الميلاد التي طالما سحرتني أثناء مشاهدة افلام العيد حين كان هناك ثلة تنتظر قدوم عيسى في بلاد الشام داخل مغارة او تحت شجرة نخيل…أميل للمغارة أكثر ففيها من الخصوصية ما يجذبني أكثر..لم أتعاطف يوما مع شجرة النخيل الفارعة التي تحمل ثمارها حصرا على رأسها كامرأة افريقية عارية تلف صدرها ومحيط خصرها بلحاء بني يقطر دبسا…
ليست شاعرية النخلة كشجرة الزيتون او الليمون والبرتقال…لا تحمل عطرا يتسلل إلى ذاكرتي..لا تشبه بلدي او انوثتي…لا تغمرني كما تفعل شجرات بلادي انها زائرة دخيلة استوائية نزحت من الصحراء البعيدة…نزحت من مكان غريب وبعيد.
على عكسك انت شجرة مثمرة عابقة بياسمين وبابونج وحبق وبعض زهور الليمون والبرتقال شجرة فريدة من كل شيء نزحت نحو البعيد لكنها ما زالت تتعلق بالأرض بهنا بهذا المكان عبر تيارات الهواء وأسلاك القلب اللامرئية…تتصل رغما عن الصقيع والمسافات بهذه التربة ،تحاكيها وتبعث فيها البذار الهواء الماء والشمس الدافئة.
هل تسمعني يا ترى وتقرأ رسالات صمتي… هل تتنبه حواسك لاختلاجات افكاري وتنبعث في مسامك عطور مشاعري المزدحمة؟
انا وندي التي لم تبرح شرفتها ونافذتها وكتبها… انا التي بحثت عن ذاتها ذات طفولة فضاعت أكثر حتى اكتشفت سرك المدفون داخل رواياتها الكثيرة الحافلة بالزهور والحبق.
لست سوى ذلك البطل الوحيد الذي لم احلم يوما ان المحه ولو في الخيال لاني كنت حينها ارى الخيال نزقا وغربة.. بئر سعادة لا تليق بالاقوياء.. والآن ادركت حاجتي لتلك البئر ولذلك الضعف ولهذه السعادة.
أتعثر بالحصى..لكني اضحك…أغرق في الوحل.. اضحك..أداعب بتلات زهر البابونج الطفل فأغرق وأغرق في نعومتها ورائحتها ونسيانها.. انسى معها هويتي وكل ما يمسك بأطراف ثوبي..أطير بحرية أجزم أني أمتلكها…ولا احد يمتلكني..لا آدم..لا أحمد..لا أحد مطلقا.. ويصدق الكون اعتقادي هذا بكل ما اوتي من خلق وإمكان.. يصير طوعي…فأجدك حيثما ثمّ وجهي..يرونك في زجاج عيني فلا ينكرونك لأنك حقيقتي..يشتمون ريحك في مذاق أطباقي فيلتهمونها بشغفي نحوك ولا يزيدون الملح ولا السكر…يؤمنون أنها على مقادير شوقي الأبدي..ولا يفتكون بي حتى بنواياهم لان ايماني بك أعمق بكثير مما يعون.. يشعرون بي..بك..في كل تفاصيلي فيحبونك رغما عنهم ولا يجرأون على رجمي بينما انا طوال ساعاتي الزم معبدك بقداسة.
نحن ما نحن عليه .. لا تهربوا بعيدا.. لا تكرهوا كل من راى زلاتكم وعاين بؤركم الآسنة.. يوما ما كنا بذرة وقبلها حصى.. ثم غرسة ليمون.. وبعدها أقحوان… من يدري كم كان الشوك فينا ضاربا الجذور.. كاسيًا الصدور.. لعلنا لم نعد نتعرف وجوهنا تلك الغابرة.. أو نود ذلك .. لكن كلما كان العناق متينا بين نحن ونحن ماضينا يمسك بيد حاضرنا بحنوّ يلغي لعبة المسافات الوهمية..نبقى أطفالا كما كنا .. نخطئ ويمحو الليل هفواتنا… والضحكات البريئة تغمز لقلوبنا سرا… فتسامحنا الأيام ونصالحها..ونصافح كل من مر وكان يوما ما سكّرا أو مرّا..
كم أحببت القهوة المرة منذ زمن كنت فيه طفلة ما زلت وكانت قريبات أمي المعقدات يرمقنني بنظرة عتاب..تشربين القهوة بهذه السن الصغيرة! ليتهن خفن على صحتي.. لقد استكثرن القهوة على ذائقتي وتطفلن على خصوصيتي ثم أردن طردي من عالم ظننّ أنه ليس ملكي بعد …من يدري متى تطفو الأنوثة فوق أقداح الصباح ؟ من يدري متى تلثم الشمس اول قطرة ماء من ذاك المحيط الشاسع..من يدري؟
كل هذه الوجوه ..كل تلك المشاهد والثرثرات…تمر كالوان قوس يضرب عمق الروح والفكر..تشفي الجروح…وترسم فينا لوحة تعانق المدى والأزل.
سابقى معك كأنك المرآة ليست كتلك التي تقتنيها الساحرات والفتيات..بل وجه القمر الذي يبيت في داخلي كل الوقت ولا ينطفئ طالما شمس قلبي تتوهج. منذ متى لم تكن المرآة ..وجه القمر الحنون..و القلب شمس الوجود تمدك بالبقاء ليستنير كل الكون بهذا الحضور بيننا ها نحن آية الحب والجمال والمستحيل.
أرى وميضا كل ليلة ينبئني بظهورك… أرقص حول النجوم المنعكسة على صفحة شرفتنا القديمة التي لم تعبّدها حجارة الحضارة وأصنام البدع الجديدة..أرقص حول دائرة أرسمها.. وكلما بان هلال..أقول ها هو .. ها هو.. فيجيب قلبي لا .. لم يأت بعد.. فأستعير من الوهم والأمل خيطا أحبك فيه انتظارا آخر…إلى أن شع وجهك الذهبي في كأس اشتياقي فاحتسيتك دفعة واحدة.ومن وقتها أشرقت ولم أنطفئ.
آدم…أتسمعني؟ هل تشتعل الغيرة في وجدانك الآن..أم راقك ضوئي؟ كلما ذهبت لموئل النور ومرتع السرور اعود إليك كعود اليمام لعشها الدافي… ممتنة لذلك العش الذي لم تبرحه إلا لتجمع المطر من حبات الوادي واكواز الجبال… يشبهك الغسق…يشبهك ريش اليمام الحنون…فها أنت تراني أحلق في البعيد البعيد ..وانا أراك تنتظرني…وتكتفي بذلك… وبين الحين والحين يروقك ضوئي انا المح ذلك في عينيك وفي صمتك…هلا سامحتني.. انا لم اختر جناحي ولا شمس قلبي..
انتظار
حملت وندي صينية القهوة ،ركوة وفنجانان ، جلست قبالة شارع طويل ممتد من أقصى جنوب لم تره لآخر شمال لم تدسه قدماها بعد.
كان الهواء مباغتا ككل شيء…ككل المفاجآت التي تأتي فجأة ولا ترحل بسهولة… جلست على كرسي هزاز اشترته في العام الماضي ، كان إضافة مميزة لتلك الشرفة التي لا تتسع إلا لجالسيْن.. هي وآدم…
أين أنت أيها الهارب من نبض الخيال ولوحات ذاكرة دفينة تلاشت مع الدهور؟ ترانا لو تذكرنا ما كُناه..ترانا سنتحمل عبء كل الدهور؟ أويتسع البحر في كوب واحد أو في فنجان قهوة ؟
أنا اجلس وحدي مرة قرب نافذتي أفترش سريري وكتبي…ومرة على تلك الشرفة التي تتسع لكلينا مع ياسمينة وشتلات حبق ونعناع وورد خبيزة…وفلفل حاد كهذا الانتظار…
انت لا تعي أنك تتركني وحدي…ليس في غيابك اللامبرر فحسب…حتى في حضورك أنت تغادرني في هاتفك الذكي..ونشرات الأخبار… تهرع لتملأ مسافات الفراغ بفراغ أكبر…صمتك لا يحدثني…لا …لم تنتق يوما واحدا في العام لتشملنا أنا وأنت في باقة ما…تعرف جيدا أنني أرتضي عطرها ولا …لا أطمع بعود وصندل وياسمين معتق…أخبرتك أن ياسمينتي تكفيني شغفا وهذا الريحان يشفيني…أينك من كل هذا؟؟
ترتشف القهوة مرة بحلاوة غريبة… تتخيل مشهدا آخر…آدم يستيقظ… يجد القهوة والفراشات ومزيج من عطور وزيوت تنتظره في ركن دافئ… يقبل جبينها ، يحتسيان القهوة ،يزرع بين خصل شعرها ورقة خضراء أو زهرة انتقاها بعناية من الأصص الكثيرة المتراصفة هنا وهناك يداعب والنسيم خدها بنظرة واحدة…ثم تستيقظ من حلم اليقظة ، إنه استفاق ، ارتدى ملابسه على وجه السرعة ، أخبرته أن القهوة جاهزة.
- أنا جائع… سأتناول لقمة وأعود بعد قليل…نشرب القهوة لاحقا خلال اليوم…
- معه حق …هو لم يخطئ بالمرة…العمل ينتظر…عمل طويل.. ساعات مرهقة…لكن ماذا لو قطف لي بعض الوقت؟ الا أستحق حتى تلك الباقة؟
همس صوت
لا يجوز لكِ أن تطفئي القمر الذي أشعلته في قلبك البعيد ،خلف كل جبال العقل ،هناك… يشع لك قلب آخر ،كالمياه الارتوازية تماما ، وانا عرفت كيف أعبر صخورك المتتالية وأفك طلاسمها كيما تتفجر…في الداخل هناك رأيت قمرا آخر ، ليس كتابع أرضنا …بل اكبر وأجمل بمراحل…لا يجوز لكِ أن تخمدي نوره بخوف ولا بالتزامات عادية… لقد جئت لكي أشهد ولادتك من جديد… وقلة هم من يولدون كل يوم من رحم الفجر ويموتون في فم المغيب…وأنتِ منهم وندي…
وجدت وندي نفسها أمام موت محتم
رغم ذلك كانت سعادتها لا توصف
أحست لوهلة أنها على وشك أن تتخلص من عبء ثقيل…
هناك قناع هي لا تود أن تلبسه ،يؤلمها، يرتديها عنوة..
متى حدث كل ذلك؟
اسقطها السؤال في قاع متاهة!
العينان خجلتان والقلب واجف
هي لا هي الآن…
لا آن في جيدها .. الساعة معطلة العقارب..
عدّاد الوقت اضطراب مخيف…
الأمواج تعلو أمامها حتى آخر الافكار…
آخرها أسماك نافقة تتلوى على صفحة لؤلؤية…
صرخت…
لا هذه ليست انا…
ليست انا…
الأفضل أن أرحل…
لا أقوى على ذلك..قدماي عالقتان بالرمل هنا… شعاع الشمس يصفعني كي أستفيق من النكران…
قبلاتي كأنها طقوس امتدت منذ أزل الطفولة…وحتى أزل الرحيل الجديد…طقوس أقدمها على مذبح هذه الحياة التي لا اعرفها…
كلما أرتمي فيك اشعر بغصة روحي…يخنقني عذابان…انت وانا…وهذا الاحتمال الأخير في قاموس عقلي الصغير ان نكون انت وانا…ها نحن كلانا نرقص رقصة مزيفة… لست بأفعى كي أوارب… جسدي مكشوف أمام عينيك العاريتين…وروحي تشف وتطير…
أريد أن أغرق…
ويسحبني الشاطئ لقلبه الدافئ.. لكن الماء يرعبني كطفلة…
أعود لها فأبكي على كتف المغيب وحيدة…
اشتاق إلى رقصتي السعيدة وحدي على شرفة أبي…والانغام أعزفها وحدي…فيسمع العالم صلاتي…ويستجيب حتى المطر…فيغسلني من رأسي إلى أخمص ابعادي….
هنا اتذكر اني اخترتك..بضعفي..بانكساري..بكل قوتي…بكل براكيني الجامحة…ورأيت نعم…هذا الوادي بيننا..على مسافة الف الف فرسخ…والصدى يردد فيه…كيف ستحيا روحك هنا؟
لكن المدى كان يجيب…بدلا مني…
أيها الموج…أنت تعال…وان شئت خذني…
لفني الموج.. حول رقبتي بقوة…ثم عصر خصري…بعدها أفلتني للخوف… ينقذني…
ارتميت بلا جسد هناك…عيناي مغمضتان…وبقيت اشلائي معك..آدم… تعيد الرقصة…وتعيدها..تدور وتدور…تلف حول الزهرة…حول الشمس..حول غيمة..حول القمر… لكن اللحن اختفى من ذاكرتي..لحن الطفولة بخرته الشمس…أذابته غيمة…
والقمر ما زال شعاع الامل الوحيد…ما تبقى لي مني.
حين سمعتك
عندما سمعتك تتكلم كان الفصل خريفا برتقاليا كثمرة نارنج مُرة قرأتها بالأمس كتعويذة على لسان ساحرة أحكمت حبكة حياتها في رواية لم أستطعها أنا…
كان الفصل ماطرا كدمع مبتهج…كعناق صوفي يرتديه العصر والأديم وسرب يمام جامح يعبر الأمداء في طرفة عين…
عندما سمعتك تتكلم ،كانت الشفاه كلها مطبقة في عقلي فلم أر إلا شفتيك تهمسان فتصرخ الأصوات ألحانا وعبارات جديدة ،قاموس حياة وتدحرج فوق العشب الندي فما عاد الخريف خريفا ولا نسائمه رحلت ،بقيت عالقة في أنوف الورد ،في مساكب الأيام ، طوت الأيام ،استحالت الايام مواقيت صلاة لكعبة واحدة ،هي صوتك.
أنت
عندما سمعتك تتكلم ،استعادت الحياة حياتها في كياني المجهول ،حينها أدركت أن سعادتي ما كانت إلا قطرة من بحر…وها هو أمامي يتماوج البحر بغروره الشاسع ،يضرب الأعماق بمجدافين ،بعينين، بقبلة مطبوعة فوق جبين عفرته قداسة…عرفت حينها أنك مقدس ،كيف لا ..وقد انهالت الأضحيات من شجري ، أغصانا ونيرانا لا تخبو.
صرت أسائل نفسي كثيرا عن هويتك أيها الغريب لكن روحك التي حضرت بقوة رمت بأسئلتي في جُعب النسيان البعيدة وصارت تردد في فكري الهادئ كلمة واحدة هي انت.
من أنت؟ هل تستطيع ان تفصح عنك … أم ستترك الصفحات تجري بما لا تشتهي… كأنك لا تعي ولا تريد ان تعي أنك الحاضر هنا بكواكبك الإحدى عشر وأنت آخرها… بانتظارك المرير..بالفقد والنكران… بخيبة أبدية..بلعنة لقاء!
فتحت وندي عينيها ، كانت تسير في طريق بستان مليء بشجر البرتقال والليمون والنارنج ،باغتتها تلك الروائح المزدحمة كافكارها تلك…تذكرت صوته ،ماذا حصل في لحظات؟ هل يفعل الصوت والكلمات مثل هذا الفعل ؟ نظرت حولها ،رأت الجميع مشغولين عنها ،بأحاديث كثيرة ،وقطع قطيع الماعز مشاهدها برنين الأجراس…مد آدم يده ، أمسكها..بُهتت..ابتسمت…وأكملت الطريق بعينيها وقدميها ،لكن روحها كانت معلقة صوب غيمة بيضاء شفافة ،كانت تجعلها تختفي وتعود..تماما كزينة شجرة العيد…تومض..تومض…وتختفي.
كان عناقك اشبه بالمستحيل
المستحيل الجميل
التوق إليك أشبه بحلم أسير تحتجزه الهموم منذ الطفولة
ويود أن يطير..ويطير…
جربت أن أعانق آدم… لكن الفجوة كانت تتسع أكثر…ففي العناق يولد بدر مكتمل…
تُختزل أوجه القمر في ليلة واحدة..في ساعة واحدة..في لحظة واحدة…في قبلة واحدة…
أتمزق بينما أرى أشلائي يبعثرها الخواء… روحي بركان وجسدي وردة… فكيف يحمي الجليد حرارة لحظاتي المتبقية… كيف ؟
لماذا جئت؟
أنت؟
ألتحمي عناقي من النسيان ؟
أم لتزرع الأفخاخ في مخيلتي…كي أتشظى للأبد..
لو كان بإمكاني عناقك لفعلت…
حبل أيامي يعصرني..يعصرني لأولد..ولا أدري ما سأكون..
خرجت وندي إلى الغابة ،إلى البحر ، إلى الحقل ، إلى الاسواق ، لكنها بقيت حبيسة دارها.. وحين سمعت ذاك الغريب ،ذات عصر ، حين انسكب الربيع في قدح الخريف ،حين امتزج الورد بالبرتقال ،حين اختلطت الحقيقة بالأوهام ،وحين اختفى الأمس وبقي الآن شاخصا في حضوره السعيد..ذاك الغريب… حينها فقط خرجت وندي ،سافرت،حلقت ، ها هي تزور بلادا جديدة ،تتعلم لغات ،تحترف المهن ،تجترح الحماقات الرائعة ،تغزل القصائد الجريئة ،تقطر الورد، تصنع البخور والصابون وتغسل الحزن بماء الفرح….
سأقتلها…
حمل كفه ليصفعها..فوجدها ثقيلة…ملحها يفوق الماء… حمل ذاكرته معها ليرشقها بها…فانتبه لها وهي تقبع في إحدى زواياها تبكي بصمت..تنزل دموعها وفمها مطبق…بلا همس حتى…فحنّ..وأنّ وانتزع قفصه الصدري ليحبسها للأبد…فرأى نافذة مرسومة فوق جبينه..ورآها تحلق كيمامة..فابتسم ونسي أن ينتقم…
آدم…
هل أنت أخرق؟
سمع سؤالا من داخله يهتف له ..
فأجاب: أحبها.
سكن الضَياع ، وهجر الأماكن المزدحمة… أغرق جسده في المحراث…وروحه في اللاشيء…وظل يراقبها كطير مرصود…لا يمكنه الابتعاد…قرأ ألف ألف تعويذة كي يسترجعها… لكنه لم يتفوه بأي حرف.
كنت أنوي قتلها ،إن رحلت…لقد غضبت…لكنها لم ترحل…لم تحبني يوما كما أحببتها…يكفيني ظلها…حين حملت السكين كي أطعنها…سرت فيّ قشعريرة…كيف أنتزع أنفاسها..تخيلتها ترحل…تخيلت جسدها هامدا…وتخيلت ألمي الكبير…قابض الأرواح…يا لها من معضلة…حين رأيت عينيها وشممت عطرا لها…أزحتهما..عيني..عنها..فوقع بصري على يدي التي استحالت غصنا كبيرا…نظرت لجسدي…هالني ما شعرت…كانت جذوري تضرب باطن الأرض… وأنا سنديانة عتيقة.
صار السكين وردة ريحان ، امتدادا لشذاها، غفرت لها في رفة رمش ما فعلته، وما زلت اؤمن اني لا أعي ما فعلته، انا أشعر بما فعلته ، أتقصى الروائح ،بين ضفاف كتبها ، في نسائم نافذتها ، وعلى وقع خطوات شرفتها تضطرب الآثار…وتُمحى الخرائط…تراني سعيدا في فوضاها… مجبولا في طرقها الملتوية المزروعة بالحب ؟
على خشبة المسرح
كان المسرح هنا صغيرا ، لم أعد اتذكر المكان تحديدا..أو لا أريد… أشعر أنه كان قطعة من ذكريات انسلخت عني ، قطعتها بكل ما أوتيت من حرقة ودموع لم تستطع الافلات مني، وعلى الرغم من عمق المحيط.. ووحشة المكان…على الرغم من شراسة كائنات هذا العالم ، ما زلت أراها تتنفس ، يعلو صدرها ويهبط، ترتسم على محياها بسمة الموت…من استسلم له…ولم يغادر.
أقترب منها … ذكرياتي تلك…أشم عبق الطفولة ما زال ينضح منها ، فيتلاشى الموت فجأة…يختفي…
دنت وندي…كمن يدنو من قاع الوادي وهو ما يزال يقف عند حافة جبل شاهق ،قدماها تلمسان الارض، بينما يمط جسدها عبر تلك المسافة البعيدة فتصبح عملاقا طويلا..طويلا…ذراعاها أمتار وأمتار…تلمسها…هي نائمة ، تلمس خدها الوردي… شعرها منساب كما كان دوما…تشد جسدها فيطاوعها بسهولة…تعانقها…تلفها حول صدرها بذينك الذراعين الغريبين ، تستيقظ ، تفتح عيناها بصعوبة.. بصوت ضعيف:
أريد أن أنام…..
حملقت وندي في وجه الطفلة…صرخت: إنها أنا..أنا…ماذا يحدث ؟
جلست وندي تبكي عند ذلك الجسد ، علا ماء المحيط واستحال الوادي سهلا…الدموع تنهمر… الورود تكبر بأعجوبة… الطفلة تصعد المسرح..الجمهور يصفق… المسؤولة تهمس بأسنان مصطكة…هيا..أنشدي الأغنية…نظرات القوة…خفقات الضعف…أصوات الأكف المتتالية…صمت الخوف….لحظات الانتظار الملتهبة…جليد الكلمات المنسية..على شفاه أطبقت المشهد وأسدلت الستارة الحمراء…كل شيء كان يهبط نحو الأسفل..العتم والأمطار…الحب والأفكار..الأنفاس والأنفاس… تلاشى الذراعان…أطلقت الطفلة الزفرة الأولى…نبتت وردة صبار حمراء ، خلف شجرة التين… أغمضت وندي عيناها برهة ،ثم صعدت جبل النور ، قطفت نجمة برتقال ، بيضاء كانت…حفظتها في كتاب سري ،كانت تقرأه…
مشت ومشت…
والأيام تطوي حدائقها والمروج…وما زال المطر حليفها الأول …تبكي معه… تتغلغل معه في بواطن كل شيء ، تنمو في الأماكن والشجر ، حتى في الصحارى تنبت اشواكا جديدة ذات زهرات حمراء…
ذات يوم…
وبعدما كبرت وندي كثيرا..كثيرا بالنسبة لعين طفلة ترمق ثوب أمها كل يوم ، تنتعل حذاءها الأنيق ، تحمل مثلها فنجان قهوة ،وتسامر الجارات ويسامرنها…كبرت بالنسبة لأحلام صغيرة على مقاس أمتار متواضعة من قماش أصفر شمامي ، له لون الشمس تضمخه ألوان النار والغروب..لم تكن ألوانا تشبهها ، لا تعكس درجة انعكاساتها الشفافة…لكنها ارتدت الثوب…كل الوقت في الحفل كانت مضطربة..كشمس لم تشرق بعد…هذا الثوب لم يلمسها ،لم يحاكيها، لم يخبرها أنه يحبها لذا هو يرتديها…لم يخبرها عن جمال خصرها وملامح وجهها.. لم يتغزل بخصل شعرها الذهبي الذي يتخفى تحت منديل شفاف ،هو الآخر ذو صفرة وابيضاض..يتأرجح بين الياسمين وعباد الشمس…قلبها العابد…كان يرنو شيئا آخر.. كلمات حب…
كان يكفيها أن تقول لها الشمس أنت رائعة…. كوني خيوطي يا وندي..كي ترقصي في الحفل كفراش ونحل وقفير…
لا ..لا…كنت أبحث عن مقاساتي في الاشياء حولي…ثوبي… سرقوا جسدي وأثوابي كلها…أريدها لؤلؤية..بلون السماء…بيضاء…زرقاء…زهرية…
- لم تسألني أمي: أي لون تفضلين يا وندي؟
تراها كانت تجدني مشرقة كالشمس ؟ هذا عميق جدا…اه..لماذا لم تخبرني وقتها…؟ نسيت ربما… نسيت ان تخبرني أني أبدو كأميرة..لقد قالتها…ولكن باقتضاب شديد.
وصلت وندي إلى شرفتها…ونافذتها… وكتبها الكثيرة التي لا تجد لها وقتا…1
- عادت إلى خشبة مسرح كبير…كان الجمهور صامتا..نبضاتها تصفق…المسؤولة ترتعد..لأنها ستبدأ بكلمتها الآن…أنهتها..حان دور وندي.. نظرات الضعف…خفقات القوة…صمت الأكف… ضجيج الافكار.. لحظات الانتظار الملتهبة…حرارة الكلمات المتدفقة…على شفاه شرعت الستارة الحمراء…وختمت المشهد…كل شيء كان يحلق نحو الأعلى.. الضوء والأمطار…الحب والأفكار..الأنفاس والأنفاس…تلاشى الذراعان…أطلقت الطفلة الزفرة الأخيرة…نبتت وردة ياسمين بيضاء ، على الشرفة…
- ترانا نتحامل على ذكرياتنا أكثر من اللازم ؟ ترانا نلصق بها تهما ونفتري عليها بمشاعر متضخمة لتثير فينا الشفقة؟ ترانا نحيكها بخيوطنا نحن وننسى خيوطها الأصلية..؟ لماذا نفعل كل ذلك؟ لماذا…نعود بعد ذلك ونصالحها..نشكرها لا مكرهين..نضمها…ألانها صارت جزءا منا..أم نحن نعتاد الاشياء فحسب…فنرفض التخلي عنها..لأنها عاشت فينا مدة وأدركت كل جوانبنا..وأخذت منا الوقت والحب والانكسار…فصرنا أمهاتها بالفطرة…وهي الأطفال التي لا يُتخلى عنها ببساطة..
ترانا نتحامل على ذكرياتنا أكثر من اللازم ؟ ترانا نلصق بها تهما ونفتري عليها بمشاعر متضخمة لتثير فينا الشفقة؟ ترانا نحيكها بخيوطنا نحن وننسى خيوطها الأصلية..؟ لماذا نفعل كل ذلك؟ لماذا…نعود بعد ذلك ونصالحها..نشكرها لا مكرهين..نضمها…ألانها صارت جزءا منا..أم نحن نعتاد الاشياء فحسب…فنرفض التخلي عنها..لأنها عاشت فينا مدة وأدركت كل جوانبنا..وأخذت منا الوقت والحب والانكسار…فصرنا أمهاتها بالفطرة…وهي الأطفال التي لا يُتخلى عنها ببساطة..
- فتحت وندي عيناها برهة ، ضمت ثوبها الأصفر..قبلته..أعادته إلى خزانة الماضي..هي لا تحتاجه..الوردي يليق بها أكثر.
- أفقد لغة التواصل في كثير من الأحيان،ينتابني شعور أنني صخرة ،كتلة متجمدة أمام أي مشهد ،مقابل أي شيء ،أو كائن من كان، أنسحب إلى مكان بعيد ،عميق في داخلي ،أظنه أكثر أمانا ، يعانقني بشكل أفضل..
- اذكر جيدا ،ذلك اليوم الذي زارتني فيه صديقتاي المقربتان بغتة بلا موعد…تملكني هذا الإحساس الفظيع…أصبت بشلل شعوري وفكري ، كنت في السابعة عشر وقتها…تمنيت لو تتبخران تماما…ولا أراهما..لا أريد أن اسمع ولو كلمة…اي حديث يهمني ؟ لا شيء على الإطلاق ،في هذا الموقف تغدو الحياة كلها ثقبا أسود ،وتغدو انت جرما متهالكا تجذبه الظلمات نحو داخل سحيق..
- سحقا! ألف حوار يدور داخل الرأس الصغير ،لا متسع لهمسة.
- اليوم
- وبعد مضي عشرين عاما…وحين تتكرر تلك المشاهد ومعها حوادث مماثلة ، أنظر حولي ،فأجدك انت من جديد… بنين…تلك الام الغاضبة التي لم تتقن فعل الحنين ، تكرر جرح الطفولة ، تعيد رسم خرائطها فوق صفحات الحاضر…
- أهرع نحو قلبي ، أغطيه كي لا يبرد ، أهدئ من روع كل مساماتي المتعبة ، اليوم أنا أفضل ، لا أرغب بالانعزال التام ، أبكي بوضوح وأصرخ بحنان مفرط ،يأكلني الوقت يمضغني ، يحاول أن يجبلني بنكهة بنين ،بحزنها، وعصبيتها ، لكنني أصارع جاهدة كالريح وانا وندي كما عهدتُني أولد كل عام من رمادي واحتراقي،ورغم الألم اضحك ،ورغم صعوبة النسيان ،أجد الليل يسعفني ويطوي عني صفحات وصفحات…
- إلى متى ستحاول الرياح وبنين وكل المتعصبين…ان يشدوا الحبل حول عنقي ؟ وكم سأصمد بعد؟
أنت ترقص سراً داخل قلبي، حيث لا أحد هناك يمكنه أن يرى. – جلال الدين الرومي
قبل أشهر قليلة ،كنت في منزلي ، أعيش حياة اخترتها يوما ما ،ساعة ما، كنت وقتها مفلوقة كحبة لوز ، لم تنفصل تماما ، مخبأة داخل قشرتها بحكمة، الجزء الأول منها ، يحمل يقينا تاما بأن ما يصدر عني من أفعال وخيارات صائب تماما ، هذا الجزء هو المكان الذي وصلت إليه ، الفكرة التي تبلورت،التجربة التي نضجت ، الايمان واليقين الذي هدأت أمواجه نسبيا….
أما الجزء الثاني ،الأكثر عمقا وصلابة وهروبا ،كان يشع بما لم أعرف بعد ، باليقين المضطرب،العقل النهم ، الروح الجائعة للأفق،التجربة التي ما زالت تشعر بنقص أكيد…
أنا ،في حياتي التي اخترتها،ستائري التي شاركني حائكها في اختيار درجة اللون..هكذا سماذجة من عنده..وتدخلا مريرا يشبه مفاجآت الحياة… لون الجدران اللوزي الذي بدا كما أردت تماما… يا للمفاجأة! هنالك ما ينطبع حسب إرادتك هنا … المقاعد الوثيرة…أيضا…وكل ما تبقى لم يخرج من سيناريو تصوراتي..بل كان للحياة وساكنيها.. أيادٍ مزعجة… ألم يكف ذلك أن يشي بأن حياتي ستكون على هذا المنوال؟
ما يختاره الآخرون…
كنت مكشوفا لي يا آدم..كانكشاف الأشياء وضح النهار…لكن الجزء الرخو مني أراد أن ينتصر حينها… فأمتّ الإرادة القابعة هناك على اليسار من مخي.. أو فلنقل أعطيتها جرعة منومة…كي أقلد ما يفعله الآخرون..ممن كنت أظنهم يحترفون لعبة الحياة دوني أنا.
لطالما ظننت أنني غريبة..ولم أقدّر تلك الغرابة الجميلة التي جعلتني أقابلك أيها العزيز الذي تسمعني وحدك… وتعيش بل ترقص سراً داخل قلبي، حيث لا أحد هناك يمكنه أن يرى.
هذا هو سري الوحيد
أما بعد…
فقد صار بيّنا أني واجهت أثمان ما اخترت في لحظات الضعف ،والانكسار…في زمن النقص والتوق للامتلاء بكل معانيه الحسية والروحية..فهل امتلأتُ؟
كنت أصارع لأجل هذا الطعام
جائع قلبي…وجسدي
ما أدركت إلا معك اليوم أيها العزيز أن صومي وحده سبيلي للاكتفاء…وها من أجلك أنت..أمجّدُ طريق جلجلتي..وأقدّسُ آثام نقائصي..وسذاجة خياراتي…وتعثري حين حزني..وسقوطي في بئر العدم…
وإلا..فكيف كنت لأحظى بذاك الوصال الذي ما دام حتى رمقي الأخير الذي لم يأت بعد..هو حبل الخلاص..وموقد الحياة…وثلج الجمر المشتعل أبدا…
يا كل التناقضات الحلوة
ما أروعني حين أرقص داخل صدرك سرا ولا يعي غيرنا أنك الهواء وشعلة الحبر المتقدة للأبد…
هل رأيت آدم فيّ؟
أم تدرك أنه من سروات دربي التي منحتني وقت البذار غصنين…
إني أتفرع رغما عني…
ولم أزل انت..
هذا جسدي للحطام.. للأرض
هذي فروعي لنا جميعا..
فإني لم أنتمِ ولن إلّاك..
وأرقص وحدي حولك
ولو احترقت
سأفعل ذلك سرا
داخل قلبي
حيث لا أحد يمكنه ان يرى
فالنار تموت بمرافقة الرماد (الرومي)
حين يهب موسم الحزن في جسدي
من يُسكّن آلامي؟
اتّجهتُ نحو النّار بملء قلبي
لمَ أشتكي من احتراق شراييني؟
حين تبتعد يصبح أحدنا الرماد…
فهل أنا النار أم أنت؟
أتعكز على قدمي اليمنى لشدة تمزقي
أهي عاصفة من شوق أم لعنة من نعيم؟
ما أردت الإعراض عن سبيلك
ولو كان بساطا من أشواك
أو بئرا من أديم المجهول
حين يهبّ موسم الحزن في دمي
ماذا تفعل روحي غير البكاء
أنا الرماد المنثور فوق الروابي
أنا بذار الورد التي شتتها حبّ المغيب
أنا كروم العنب التي عتقها عشق الخوابي
أنا نارك المتقدة للأبد
“ما لَم تبكِ الغيمة ، من أين للبُستان أن يَـبتسم.”
( الرومي)
خرجنا أنا آدم والطفلان… ومن معنا من قوم نوح…وأنا لا أدري نحو أي جبل سيكون المرسى .
ترى كم من السفن تبقّت للآتي من الأزمان…
لن يملّ الطوفان من العودة ولا نوح من التّجلّي…
أمّا من يصعدون للأبد..فعابرون…مثلك يا آدم..مثل كل الذين رافقونا في رحلة النزوح…
خلّفت أرض البستان تتلقف النار ، ونسيم الجبل يبتلع دخان الغضب … خلفتُ الأمس ينتظر رجوعي للعشب..للورد..للطرقات المزدحمة إلا مني…فقد كان صمتي يسكّنها ويهدهد أهداب مغيبها الخمريّ.
لم تغادرني قط.
لم ألحظ أني غادرتُ شيئا ولا مكانا
بل على العكس أنا أعيش سماءً أكثر زرقةً…وغابات أكثف أشجارا…وليالٍ أقلّ أفكارا..
ْلقد سافرت إليك… رغم معجزة المسافات…واقتربت سبلنا بفعل اضطرام الحنين..
آدم هو آدم…
أنا هي أنا…
ما الذي يمكن أن يتبدل يا ترى؟!
حتى البكاء…
هنا الغيوم أكبر
هنا المدى أشد رحابة
وسعادتي غريبة…كأنها اشتعال بخور…احتراق بساتين من جذوع الليمون…جرحٌ عميقٌ في الشرايين…اندلاع حرب بغتةً عند الصباح…
ثم تعود..تعود إلي كلما طعنني البعد…رزمات مطر… باقات ضحكات…نوم عميق..ليلة ساكنة بلا أوجاع.
حتى آدم لم أرده أن يَحولَ بين صلاتنا
لم أشأ أن تقطع أحاديث الأرض همسات السماء
إن لمْسي نارٌ
فحنيني صار بخارا
لا يُلمس!
ها هو البستان ابتسم
بعد بكائي الطويل
وجرى نهر من دمي في جسدي
يا أعشاب البابونج الشقراء التي ضحكت
خذي من قلبي مذاقه الملائكي
ليرتوي البستان
عندما تظفرُ بلحظـةٍ من حبيبٍ عزيز
! فإنك تظفر في تلك اللحظـة بنصيبك من العُـمر
( الرومي – الرسائل)
أنظرُ إلى ما مضى..فلا أقدرُ…لا ماضٍ فيّ ..كلّ ما مرّ ها هنا ساكنٌ فيّ … ينمو في مساماتي ويزهر عبر كلماتي…
طفولتي الوردية ثوبٌ من ذكريات وحكايا كنت أقرأها على مصطبة الدرج…كعبتي الصغيرة..ومنزل دميتي ذات الثياب الكثيرة التي كنت أخيطها بعدة والدتي.. إبرة وخيطان…
إنني أقطف ثمار ما زرعه الآخرون فيّ..فلا يعنيني هكذا قطاف..لا آبه بتلك السلال…فلتكن كما جرت مشيئة إرادتي المحبوكة بإبرة أمي..وصبر والدي…وبقايا آخرين…
إنني الآن..والآن قط …أزرع من جديد ما يحتاجه جسدي من عشب..وما تشتهيه روحي من ألق.
وهذا وحده ما يعنيني حقا.
كلما التفت إليك
من بعيد
شعرتُ أن السماء تفتح قلبها الأزرق لي
فأضمّ المدى
وتصبح الطيور معي..الأشجار..والعشب الكثير
كلما انتظرتك
بشوق
حزنت حتى الموت
ثم أحيا كأن موتي ما كان
وأرجع كما ولدتني أمي
بلا ذاكرة
بلا قلق
بلا أوهام
بلا زمان إلا الآن
أتعي..؟
أني لو أظفر بلحظة منك
سأحيا وأحيا وأحيا
إنك العمر
وأنت نصيبي
لكلّ ليل قمر، حتى ذلك الليل الذي بأعماقك
(شمس الدين التبريزي)
حين أضعتك مرة
ساورني البكاء
انهمرتُ بشدة
نظرتُ إليّ
وجدتك!
ما أبهاك حين تغيب
بلونك الشفقيّ
بزهرك الشتويّ
وحزني مدارٌ للكواكب
اكتمل الحب
متى تعود؟
معلمي الأوحد
من مات في العدم
وعاش للأبد فيّ
أنا محيط الوجود
وهو اللؤلؤ والمحار
من أنا؟
أستحيل ليلا
بغتة
وهو يدور في ظلامي
حين يلمع أصير بؤبؤا حالكا
في عينه
أستحيل رحيقا
لورده
أزرارا عطرة لأهدابه الشقراء
خجلا أصير وطفوليا
لغمازاته العميقة
لكل ليل قمر
وانت لأعماقي المظلمة
ذلك القنديل الذي
لا ينطفئ!
يأتي شَخصٌ ما فيَجعلك أنت
يأتي شَخصٌ ما فيأخذك بعيدًا عنك..
(شمس الدين التبريزي )
لم أعد أدري اين حطّ بنا اللقاء والفراق والكلمات التي كُتبت ولم تُكتب بعد…
مرة أعي أني وندي الصغيرة التي لم تكبر
وكأنّ جسدي يقرا ما أشعر..فلا أكبر
حتى خُصل الشيب لم تستطع ان تقبض على عمري
هي التي اجتاحت ربوعي ذات شتاء مبكر…
ومرة يزول اسمي من خارطة فكري…وأعي أني مجرد قطرة..من مطر أو عطر…
ورقة خضراء.. سقطت من شجرة..
ولم تيبس..راحت تطير وتطير حتى حطت في بلاد بعيدة
وكان الهواء يتقاذفها والنسيم والريح والعشق!
أنا مشلوحة من أغصان..وصخر
مترامية على تخوم الأحزان
أرتب سلال الفرح على غيمات الربيع البيضاء
أنا يقظة الليل الأسود
مندلعة كحريق…أعواد ثقابه
أنتظر البدر…
أنا الفجر المتثائب
غافية على كتف ضوئه
أتوسّد بقايا حنينه والصباح
جئت لترسلني إليّ
جئت لتشلحني بعيدا عني
فيروقني أن أتسكع كشاطئ
وأغرق كقاع مُضاء بالمحار
وأنت الرمل…والمرجان
وأنت أعشاب البابونج الشقراء
ورحلتي التي لن تنتهي
” حين يُحلِّقُ طائرُ المعنى،
سيرتدي الشكلُ أجنحةً.”
جلال الدين الرومي.
لن أسميك أحدا بعد اليوم
لن أخاطبك البتة
لقد أرسلت أوراقي إلى ما وراء الشمس
لا الغيم بات يبكيني ولا الأمطار تروي عطش الفصول
إن الأرض ملاذ للخائفين ،وقد نذرت خوفي لما لا يُرى سوى بالقلب
انا هي الريح التي هبت يوما
أنا النسيم الذي غفا فوق البتلات يوما
أنا هدأة السكوت في لجج الخريف
أنا العدم في حضور الحبيب
يملأني الشكر حتى الارتواء
كيف مرّ اسمك ذات يوم فوق حقولي
همى على غصوني فأورقت بعد ذبول وذبول…
لن أسميك أحدا بعد اليوم
لن أخاطبك البتة
لقد أرسلتني إلى ما وراء الشمس
وها أنذا أجدني خفاقة كطير
مسربلة بالمدى والنجوم
إلى من أعتقني من سجون الشكل
وبات لي أجنحة
أهديك ذات معنى
وأجيالَ..أجيال عرفان
فإلى الملتقى والوداع
ينسكب الموعد في كؤوس الوفا
وأبقى أنا الريح
ولا يضيرني الهبوب
ولا السكون
عدتُ كاليمامة لنافذتك
أخاطبك …آدم…فهلّا أعدتَ تفّاحنا لسلاله ،وعقارب الوقت لمينائها الهادئ …إني زرتُ حالي.. صافحتها فقبّلت خدّيَّ…طفلة أنا دائما…وفي الطّريق جئت لتعلّمني بالألم والرّيبة…بالفقد والوجع.. لذة السعادة والوصال… معك تداعت جراحاتي…لأنك كنت دوما مرآتها..مرآتي… اقتحم نبلي كله…وإخلاصي العتيد صرح الحب وحين لمح الخيانة تتراءى في الأفق البعيد…كان لا بد من أضحية على مذبح الروح والجسد..
من نحن سوى اليمام؟ وهذا الصرح ملعب طيراننا…أما الروح فينا فإله…ما أعظم من نحن!
أيليق بنا سوى القبول والرضى..احتراف السعادة والحياة للأذكياء الصادقين…فحسب…فلنعد لسربنا بما نحن عليه..
ترهقني ألغازي وأنت منهم…تلازمني وأكاد أجنّ كيف ذلك؟ وحين تفارق…أقول ماذا لو تكن ؟ أكنتُ لأكون؟
إنّ لعبة الحياة بيننا شجرة بديهيّ انغماسها في جوف الأرض…ومؤلم وجميل مدى تلك الحرية التي تنعم بها في الأعلى…حيث السماء…ترى ما الفارق بين جوف الأرض والسّماء ؟ ولمَ اعتدنا اعتبارهما ضدّين: جحيم وجنة؟ من يدري ؟ ربّما هما متساويان في القبح والجمال…في القيد والانعتاق…يعود الأمر للشجرة… ماذا تفضّل!
الليل
سلّمتُ مفاتيح الليل لليل وعدت أدراجي نحو شمس الطفولة. وجدت البسمة مازالت ترتسم على محياي كرضى طفل استفاق للتو من نوم هانئ. أترانا جميعا حين نكبر نفعل ما أفعل؟ أم وحدي أنا أرسم بطبشور الحبّ الأبيض خارطة العودة إلى الوراء..إلى كواكبي الأولى…إلى خمائل سماوية خمرية…وسرب نجمات تطرز بالَ الكتابات…هوامش المواقف…اختلاجات الآن…انعكاسات ذكرى عينين…وبحر وفيروز وشقائق قلب متفتحة…متفتحة كزهر أبدي..كربيع سرمدي….في الواحد بعد أربعين عامًا أنعكس في مرآتي… هذا الوجد…باقة مطر يغسل مرآتي..وأعود..أعود… أحيا الوجود الذي مادام ولم ينقضِ…لمّا يعد السؤال مطروحا على باب فكري…لمّا ينتظر حالي الإجابة..فأنا السؤال وظلّي الإجابة..صمتي ملء الكلام…وفي عينيك مسك الختام.
صيد
لم يعد قلمي سوى صنّارة…بحري محيط أرقام.. معادلات حسابية ناقصة..هنا على اليمين عدد مختفٍ..هناك في الأعلى مقالة بلا مقدمة وبلا خاتمة..أتدري أيها اللامرئي الغائب أني لا أبالي ؟ فأنا أحصي عدد الدفاتر وأتجول بين علامات الوقف بحذر شديد كيما أتعثر بوقارك من جديد..لقد خيب جدول الضرب كل آمال عالمي الافتراضي واكتشفت أن الطيران أفضل حل للوصول إلى محطة رحلتي…الخيال!
من هي وندي ؟
لقد نسيت تمامًا صلتي بها..وعلاقاتها بالآخرين. أنا هنا لأقول أنها كما أراها لا زالت على شرفتها تتأمل القمر وتقرأ. _ ألا تكبر؟. _لقد قررت أن تخلو من أي زمان.فكيف يشيخ من اشترى الوقت بالتجاهل..من انصهرت كل سكناته وحركاته في لحظ الآن ورفة رمش الآن…لا آتٍ يُنتظر بعد الآن..لا قبل يشغل الآن…لا دمع سوى الآن..لا افترار بسمة سوى الآن…إن تلك اليمامة عادت وتعود ألف مرة وألف ألف مرة وكلما عادت سترفرف قرب نافذة وندي…وسيحكي الليل حكايتها…وتخفي العبرة عَبرات سقطت سهوا من فم الكتابة…ستعود الأمومة المجروحة لحضن الحب آمنة حين تتجاوز بنين مرّ البن وتستمتع بلذة قهوتها مرة كما ولدت على شفاه الحياة في طرف غربي من المتوسط…حيث البحر أزرق…حيث تهب ريح الشمال باردة..نحو نافذة وندي…تعانق أمها… تحتضن آدم…أوليس من ضلعها؟ بضعفه…الذي ملأ فجواتها…وأطلق أنفاسها…وندي..لتطير حرة مع يمامتها….ولتبقى أنت نجمة العيد الراسخة في ألق السماء…منارتها…تيّار الشوق المسافر عبر الأديم..شعلة الكرامة المضيئة في الضمير…صمت وندي أنت… وكلماتها المحفورة في عمر الكون…وحرف حب كالنار لا يخمد..لكنه معمّد بطهارة القداسة…مستتر كحجب الليل..كأسرار المقامات العلوية..كألف باب ومحراب…كشمع الكنائس ورنين أجراسها…كآذان الجوامع الصادقة الملهَمة…محفوف بالنسيان والعجائب الكبرى…بين البين…شفاف كمدى أزرق لا يدري ألونه منه..أم من أرض أم من محيط..بيان البيان…وشيء ما يجعل اللغة ضربا من المشاعر.
فلو هجرتني لمائة ألف عام. لا بد أن تكون عندي أخيرا لأني نهايتك ( الرومي)
مريضة
لا على كرسي ولا سرير..لا مقعدة، لم تخسر أية حاسة ،أو تفقد عضوا من أعضاء جسدها ،عقلها سليم ويقظ أكثر من اللازم ،لدرجة لا تستطيع معها النوم،أصابها إرهاق قلق مزمن استمر أعواما لا أياما ، لم تتعامل مع هذه المشكلة كمشكلة ،كانت تحاول أن تتعايش مع هذا القلق كسرّ لا يمكن أن تبوح به .
حبن وصلت إلى أعلى عتبات الألم ،التعب، أنّت قليلا، أخذوها لعراف يطالع الغيب ،الكف،ويكشف المستور ،هابه حضورها ،قال لذويها: إنها سليمة تماما لا ريب فيها ،لم جئتم بها إليّ…لا تشوبها شائبة ،لم تفرح كثيرا ،لم تكن تنتظر غير تلك الإجابة ،وآمنت أكثر أن الحل قد لا يكون إلا بموتها ،فالحياة معضلتها والأدهى أنها أدركت ذلك باكرا…
الرقص قليلا…الغناء…الصلاة الصامتة ،الوحدة …كانت تفي بالغرض ،مسكنات تذهب أعراض الفكر الوقاد ،قنديلها لا ينطفئ، أرادت خطة للتعامل مع هذه المعضلة لتأتي السعادة كي تزورها ،كما كان عهدها بها حين كانت طفلة لم يشتعل الوقت بعد في مداها….
أأعود حرة ؟ طيرة خفيفة الظل سعيدة؟ تلقائية كالمطر… رذاذ شهي..وأغنية رقيقة يعزفها هواء الخريف..ولحن دافئ..وذكريات تستعد للابتسام تحت لحاف النوم..
الراحة متعة…وأنى لي التسلق فوق حبال اللعب…كسالف عهدي ،أعيدوا إلي الطفولة ،فلا يكبر إلا من قرر الحزن وأنا وقعت مع الفرح عهدا قديما…ومازلت أبكيه كطفلة أضاعت لعبتها…
سقيمة أيامي بلا أنا.
أعيدوا أناي لأفرح
لا لم يكن مثاليا
لا لم يكن مثاليا البتة! كيف استطاع ان يجمّد تفاعله معي هكذا في حالة بؤس مستمرة ،ينام حتى العاشرة على أقل تقدير،حتى انه في يوم عطلتي ،نهض مع آذان الظهر،بعد مساء يخلو من أية مظاهر حب أو مرح…فقد الشغف الذي يعتريني بقوة في أيام عمري هذه… سألت نفسي عن السبب ،وجربت أن أحقنه بشغفي ،بمداعبات لطيفة ،بحنان، غير متكلف،بتقدير لما هو عليه ،على قلته،وزهده، لكن عبثا ،هي دقائق مفعولها أقل من مفعول حبة مسكن ،ويعود إلى اللامبالاة. استيقظي وندي… هكذا كان ،ليس بالأمر الجديد ،لكنك بالفعل اليوم استيقظت بوضوح ،والعالم اليوم يغلي بشدة ،أما آدمك فيركن في مكان هادئ،لا ليته هادئ،بل هو عدمي ،لدرجة تشعرك بالجنون.
صار آدم يتقبل كل الأشياء ،لطالما كان كذلك…هل انتبهت وندي؟ يا لألمي ،يعصرني الهجران ،أبحث عن عدم النكران ،أود ان أستجمع بقايا خيالات حول شخصه،كي أتقبلها كما هي، برضى ،لكي أجد السعادة ، يا للسعادة ما أجملها..حين ترقص كطفولتي ،على شرفة المطر،لكن هيهات…غصات الواقع تلتهم آخر ابتسامة رسمها الحلم .. آدم لا يستطيع ان يكون لي ، هو أعجز بكثير عن امتلاكي…كلما دنوت… صار أوضح وأبعد…
وكلما ابتعدت… اشتاق… ويموت الحب في قلبي وحده ،ولا أدري كيف يعيش حبه هو لي ،في داخله ،بلا شغف الحياة ،بلا كتاب ،بلا عشق،بلا ألم،بلا وسادة ،أو دمعة.
أفهمه جيدا وتلك الكارثة الكبرى…ان أفهمه ولا أحتاجه ،أو أحتاجه في لحظات الضعف فلا أجد شيئا ،صدرا كريش نعام ، صمته لا يتكلم ، ويداه لا تنبتان.
كيف أحيا ؟
فليخبرني الله ، حالا…ألا إني ربي ،فقدت تأدبي في لحظات نكران ،في لحظات تخلي… ألم تخبرنا أنك القلب؟ قلبي تطعنه سيوف الآن ،والآن كل نجاتي ،فأعنّي،كي لا أهيم على وجهي..حبا وبكاءا…. ظننت قبيل شهور ،أني سبب موت آدم.حين حلقت فقد هو جناحيه ،حين ابتعدت ضاع منه ومني… ربي! قد عدت إليه مرارا…لألقاه ، سرابا….سرابا…. لقد أعلن هزيمته منذ بداية عام الحب الأول ،لم يسق زهور شباط في ريعان تألهها… لم يسهر لأجل عيون الليل،لم يسرق مشطا لأجل القمر الساهر ، لم يهرب ،لم يكتب،لم يكره ،لم يصفع،لم يصرع خوفه ،لم يُلهم قلبه للأغاني ،لرقص شرقي ،لصلاة مقدسة على طريقة صوفي…
أذكر أنك مرارا أضأت بشغف لي قنديلك…ثم انطفأ…سأرحل….لا لؤما…لا خذلانا…لا هجرانا…لا طمعا ،لا خوفا ،سأرحل بعيدا عنك….في عز وجودي بقربك ، لتعود إليك ،لتحيا،فقد ماتت فيك الأشياء.
قبل أن أغادر شرفة الكتابة…
تذكرت شيئا..نحن أغبياء حين نروي قصص الآخرين..كي نواري سوءاتنا..أيهم كثيرا نيل الجوائز الكبرى واحتراف قواعد اللعبة؟ طالما نحن أبطال الحكاية،لم وجب علينا اختراع الأسماء،والشخصيات؟ إن حبنا الذي بدواخلنا أقوى من بركان،وقداستنا أعمق من صلاة متوحد زاهد، والألم الذي تخليه معزوفة على صفحات صدورنا أعظم من ملحمة،كفانا هزءا بما نحن عليه…نحن الأدب الجديد الذي يدوّن في كتاب عصر لا تشبهه إلا عصور الحروب الكبرى،إن ما يحدث في داخلنا أكبر بكثير مما يظهر في العلن.وهذا الموت الكثير لم يعد يعني شيئا،طالما ذقنا طعمه بمرارة،ما الفرق بين هكذا موت،وآخر يخفي أجسادنا عن الأرض؟ هو حقيقتنا المؤلمة هذا الفناء ،ولا زلنا نتلذذ بالصبر والمرار وادعاء الألم لأجل الحب! إن من أحب حقا عاش للأبد..
أنت .. أنت .. أهزوجة سرمدية
قد شاء ربي كل النقائص
حتى تكون الملتقى
فتق لقلبي نافذة
وحز وريدا أغدقا
فالطير أنت بغير موعد
جاء فحبا أشرقا
ماء ويجري في عروقي
صرنا محيطا أزرقا
نصل أوهامي كسرتَ
وردمت عشقا مطلقا
احتراق عذب!
ما هذا الذي أنا فيه؟
أناجيك أم تراني أناجيه؟
ما خلا منك وما منه خلوتَ
ما دام احتراق ما فيّ من فيه
لو غبت عني ما زلت اراك
لو جئت فاض ما أعانيه
هيا زدني من جوى وجد
فالليل احتراقُ الصبح والتيه
انا من انا…والوقت اشتياق
ما خان دهرٌ بما يحويه
وكذا أنا الدهر
وأنت أنت من فيه
من أقرب ؟ دمعة تقف عند حافة العين ،أم بسمة ترفرف فوق جنح قلب؟ سعادة غامرة بلا حد ام حزن عميق بعيد الأغوار؟ إذا تحرك الفكر همت الدمعة ،وإذا فاض الشعور انسكبت البسمة في قدح الأزل…قلبي أزل فرح وبكاء ،تجود فيه الحياة وتختصر آلاف الكلم بلحظ الصمت في محضر الملكوت.ينعكس الحضور في الغياب كما ينعكس الحق في مرآة الوجود ،أرقص على لحن هذا الترقرق العجيب ،آلف الضوء المكثف في لجة العتم.. يمنحني الأرق سهر عذب… آلف الأشعار التي تهبط وحي الليل…….حيث لا تنتهي الأشياء.
عادت اليمامة في الموسم الثالث…عادت إلى نافذتي وندتي الجميلة قالت نسائم الربيع تأهبي للحب من جديد،ومن قال يا نسمتي أنني تركت الحب كي يعود لي،هو معي في جعبتي ،بين الهدب والعين ،وفي ثنايا وحدتي….عادت اليمامة ،تنقر فجرا قضبان الشباك ،سمعتها فرّ قلبي إليها…ثم هبّ شتاء مباغت أفزع الربيع ،وأفزعها، تركتني بلا موعد، كلمتني بضع كلمات ثم خلّفتني صامتة ،بلا انتظار ،مع حنيني…لم تعد ،لم تنقر الشباك ، ألأنها تعي من أكون…تمعن في هجري هذا الموسم…هي والشتاء ؟!
وندي…آدم
انتظر القلم وندي لسنوات من يدري عددها وحسابها؟ كان ينظر بغرابة لإهمالها له…لزهدها فيه…كم آلمه ما مزقته من أوراق وما لم تدرك قيمته من معنى! حينما كانت تكتب في بداية شبابها اي في مطلع سنواتها الخمسة عشر بحسابنا نحن، على هذي البسيطة ،كانت تؤمن انها مجرد خربشات لا بد أن تُمزق وتختفي تماما..كأنها جريمة فلا أثر يُستدل به عليها إلا اللهم ذاكرة لا بد أنها ستكون قصيرة المدى لبساطة السر الفادح الذي يُفترى! كم كانت ترى الصغير كبيرا والحبة جبلا! كم ..وكم كبدها ذلك من زمن ليس بهيّن من الوهم والمعاناة! أتراه كان جلجلة الطريق الذي لا بد منه ؟ ربما…وصليبها؟ حب لم تذقه…هكذا ظنت ..بحثت عنه،هربت منه،فقدته،وجدته،بطريقة غريبة…. كم كانت شفيفة وندي حين عصرتها آلام مخاضها الأول بين القلب والفكر…فكلما حاول القلب أن يخرج من رحم هذا الجسد لملكوته ،وجد الفكر كسجن عصي عليه،أبوابه موصدة…
كم كانت شفيفة وندي ،حين ولد القلب أخيرا بعد سنوات عجاف من الدمع والوحدة.
- وندي … ما بك؟
- لا شيء آدم…قالت عيناها ذلك ،وفي باطنها حنين قوي لرجل أحبها بصدق،عشق تفاصيلها الصغيرة،لم يتركها،لم يخنها ،وهو أمر كما أُخبرت لاحقا… مستهجن في عالم الرجال! إلا أن حظه أن يكون مع أنثى ،لم تزل تولد،لم تزل تحيا الحب المولود توًّا…فكيف يعي آدم كل ذلك ؟ أتراه يعي ذلك؟
أعود إليك كما يعود الليل بعد كل نهار ناسيا ما حل به بالأمس…وجع الولادة كما يقال لا يُستذكر ! ما جربته ،إلا بعد كل فراق وقبيل كل لقاء ،هجرتنا طيور أيلول فاتنة لا تحب الظلام…من قال أن الليل ظلام ؟ قد ظلمه! الليل نور قمر وتحديق كواكب…وانبعاث الروح في الجسد المعتق… الظلام عدم…وانا كل شيء إلا العدم…انا المحراب وانت الصلاة المقدسة وما بقي من حياتي نوافلها….تغدق الكلمات في محضرك وأنسى أن البين قدرنا…وأن واجبنا البعاد…أفهل نهري هذا ذنب أم تسبيح الروح؟
الكل يسأل من أنت؟ لن أخبرهم…سأخبئك في محارة في أبعد نقطة من خيالي، بعد آخر فكرة من فِكري، وفي أجمل أجمل ياقة من أرق شعور أملكه…من سيفهم أنك لؤلؤ أصابعي … أنك مسك أنفاسي…وأسلس حرف تنطقه شفتاي ؟ من سيفهم أنك سر الشعر وبوح البحر وريح الفجر وأعمق سر يكمن داخل صدر… وأني أنوي أن أسحرك في تعويذة كي أحرقها بعد صلاتي…كبخور هندي…لأسكن فيك أبد الدهر…؟ يا أنت…يا أعتى عدو غار ذا يوم على مدني كلها فاحتلها قاطبة..ورماني في قفص صدري…أقتات على نبض وردي…فأموت تماما…وأحيا تماما… وأولد بعد كل مساء من رمادي الأبدي…
عالق بين ضميرين الهو وأنت… بين الواجب ،العطف…مسافة مخاطب كإله صغير يقبع في الحاضر…متقد دوما كإكسير حياة…عاجز عن الحضور ،لقيامة الغائب…القيوم… يا دائم النطق في قلبي ،كيف تراها تخرج أحرفك لمثواي الأخير عند الشفاه ،أضحية ولهٍ لا يُضام…إني في طور العبادة ،أستقيم، ولا يستقيم حرفي مرة أمام فهم العوام لما لك من مقام عظيم لا تتسع له الكلمات…أمتصل بالواحد حد التماهي؟ أبخور معبد مهجور عند جبل قاف عطرك حتى مضى إليّ عبر مسافات المحيطات…
إني أتأوه أسى،ويأبى ضميري إذاك أن تلسعك أحاسيسي هذي ،فما أقسى الألم لو مرّ من يديّ لجوارحك ألا تبّتا عنك….ألا فابتعد غرقا في بحرك ،في خمرك ،في لماك ،وانجُ يا أمير نحلي من رحيق الأديم…الذي يسكنني…الا تذكر أني ذات ربيع قطفته..هذا الرحيق من شعرك الأشقر..من أهدابك…من لحظك..من سكونك، من جمالك الباهر ؟ من بابونج فمك الملآن شعرا ولا يتلو إلا قصيد الهوى…
ألا تذكر كيف كان سكينك يقطع أحشاء روحي إربا…ثم ينفخ الحب فيها فتصير طيرا بإذنك…وأرحل معها لسماواتك الرحبة؟
أأنت مقدس ؟ نعم…
وأنا؟. كلانا
عابدة عند محراب انتظار لا يهاب الوقت، لا يقتل الهو رغم الهوى…يا ألف الوجود…أنت فصل السرمدين…أعانقه هو…وأنت العناق المولود توًّا في سرّ صدري… لا سجينة أنا فيك…أنا انعتاق..وانعتاق…وفراق …
في الحقل ،تحديدا،تحت سقف البرندة الذي لا يُرى ديك صياح، توجد دجاجات أيضا،يصل صوت قوقأتها إلى آخر الشارع ،وحدث مرة ان اقتحمت بيتنا ،كانت امي تضع التحف البالغة الصغر في رفوف لطاولات من خشب الزين ،لها قوائم رفيعة ككعوب نعال نساء الليل ،تنتهي أعمدتها الثلاثة التي تشكل ركيزتها المثلثة ،عند رأس مدبب ،وهي مفتوحة من الواجهة كامرأة تعرض مفاتنها للعابرين،ولكن هنا عند أمي تعرض ألعابا صغيرة احتفظت بها من سوفينرات اي هدايا الأمهات اللواتي يلدن ،فيجهزن الشوكولا مع لعبة صغيرة بلونين ،الأزرق للمولود الصبي،والزهري للبنت المولودة حديثا،كما احتفظ معها بأسماء المولودين والمولودات المطبوعة على أوراق سميكة ،أو محفورة على ايقونات ذهبية وفضية،إضافة إلى زهور بلاستيكية وأخرى مجففة، احتفظت بها من عرس ما أو خطوبة ،ويحدث أن ترى فوق تلك الرفوف فازات نسميها هكذا تيمنا باللغة الفرنسية التي اندمجت مع السنتها منذ صفوف الروضة ،زهرية وزرقاء أيضا وبلورية، ويل من يحاول كسرها أو المس بها.. لسنوات طوال، تولت الدجاجات مهمة نزع هذا التعلق من عقل أمي، فأغارت عليها كصاروخ مباغت، وما كان من أمي إلا أن غرقت في نوبة هستيرية من الضحك بينما تركض خلف الدجاجات محاولة طردها من المنزل ،ونحن إثرها نركض في كل اتجاه،أما الدجاجات فقد جنت تماما مما حدث،فهي لا تعي ما فعلت ولا تجد مهربا من الورطة.
أمام بيتنا سطل ماء ،باغتتني في نملة،كأني سمعت استغاثتها،طار عقلي من الفرح في أن أكون المنقذة لحياتها ، مع أني كنت مستعجلة لشراء ماسورة بيضاء لأمي من عند جارتنا، قرفصت قليلا، كنت أرتدي شورتا زهريا قصيرا،وبلوزة بيضاء، كان شعري ما زال مقصوصا، إثر تجارب أختي أليس التي أجرتها كي تحترف مهنة الكوافيرة، حتى في أسوأ محاولاتها ،الجميع أعجبته تلك القصة الفرنسية اذ أبرزت ملامح وجهي،غمزت للنملة بفرح،أصعدتها سبابتي،وضعتها فوق حافة سخنة،تحت أشعة الشمس ،وهرعت للدكان وهرمون البطولة يسري في شرايين دماغي،كنت أبحث عن النصر في كل مرة،ان انتصر لأي ضعيف،أن يرضى عني الرب الجميل الذي أشعر بوجوده في كياني.
ابنة خالتي الجميلة تزورنا هذا الصيف،يطير عقلي بها،أشعر كانها حورية لم تسقط من الجنة،بل هبطت من بيروت ،بيروت ميقط رأس الروعة،والغموض والفضول الذي أعيشه كلما فكرت بطرقاتها ،بصخرة الروشة ،المقاهي البحرية ، نسيم البخر،سنونوات البحر ،ملابس البحر ، المباني العالية، الأضواء….وندي ، أنا لا أنوي بتاتا شراء سيارة أي هراء؟!
- ماذا؟
- سقطت الأحلام البيضاء المكورة في رأس العبد الذي تغطيه الشوكولاته ،تناولتها انا وابنة خالتي،وابن عمي اللطيف الذي كان يرمي كل سماجته علينا ،ليتقرب منا طبعا ..
- لماذا يا آدم؟ والحرقة والندم تأكلان ما تبقى من حلوى الطفولة…لم استطع التراجع للخلف ،لم أعتد ذلك، التقدم للأمام أفضل،هو لا يحب الحياة ،آدم الا تحب الحياة ؟
- ربما لاحقا..من يدري ؟ وتذوب الأيام كزبد البحر ،كلما توالت الأمواج،موجة تلو الموجة،يفقد الرمل أصله،يمتزج مع قاع المحيط،مع اللؤلؤ، مع المحار ،ولكنه يعود في النهاية تحت ضوء الشمس إلى الشاطئ .. يعود.
نربيش ماء موصول من حنفية مجلى أمي النظيف، يتعرج من المنزل نحو الشرفة التي ما زالت على براءتها،باطون رمادي معتق بالطوب والتربة، فيه روح المطر ورائحة الماء، الشرفة المستطيلة الواسعة جدا، بطول يفوق الخمسة أمتار،بعرض أربعة،لها حواف عالية، تسمح للواقف أن يسند كوعيه براحة،هناك تقف إحدى اخواتي ،تمسك بالنربيش،أبي في الاسفل ،يسقي الموتور،نعم الموتور الذي يكاد ينفجر من شدة ما عمل ،طيلة النهار،وطوال الليل، فالكهرباء كما الآن،شحيحة ككل ما يقدمه البشر،أما ما تعطيه الأرض ففياض كهذا الماء الذي أطفأ لهيب هذا المسكين…
كنت في الداخل،أسمع،أتخيل المشهد،أبي في الاسفل بسمرته المستجدة من فعل الشمس ،فقد رأيت له مؤخرا صورا له في بداية شبابه أشقر ،هادئ الملامح ، كيف تبدل هكذا ؟كيف حفر العمر القصير أخاديد عميقة في الوجنتين والخدين وعلى الصدغين،يبدو محترقا تماما.. كهذا المسكين الذي لا يهدأ…كان ينتظرنا ،لنصرخ له بصوت يعلو صوت جعير الموتور عن نتيجة امتحاناتي،كان الراديو الصغير موضوعا على المجلى قبالتنا،كان عقلي الذي يبدو صغيرا بالحجم،مشغولا بأمور كثيرة ،الا تلك النتيجة التافهة.
في اليوم الذي تتبخر فيه الذكرى ،تتوقف عن كونها جحيما،يوم تستسلم تماما للتسامح… التسامح فقط والقبول…حينها سنصبح على ما يرام ،خدعة المثالية هي أقبح ما في الوجود،لوثة مسرطنة ،بؤرة ضياع، انعدام للوقت، تخثر للوقت، تماما كما يتخثر الدم بدون حدوث جرح حقيقي ،جرح واضح ومفهوم…مجرد أوساخ..أوهام تضع أصابعها في محور عقارب الساعة…فتنفلت الدقائق والساعات…تنفلت أيامنا منا،إرادتنا تصبح في يد العبثية.
تساعدني جنين ،والدتي،على تخطي ما أصابني من كل شيء تحت سقف كان يجمعنا، كما ساعدتها بطريقة ما على تخطي الكثير من كل ما أصابها من كل شيء تحت سقف جدّتي ،كنت لصيقة بها بشكل محايد.. أرافقها ولا أرافقها،أحدثها تحدثني وعقلي مشغول بتحليل شخصيتها ،بكل ما تقول،وتفكر، أرصد كمعالج نفسي اختلاجاتها المرَضية، يمنعني ذلك يعيقني عن حبها كما يكون حب البنت لأمها،أعيش بداء لا اسم له علميا على ما أظن أسميه أنا ( الشعور بالذنب المستمر) على كل فكرة أو خاطرة سيئة تتعلق بها،بدأ الأمر بها ثم انسحب نحو كل شيء..كل أحد…
أليس سيّئا وجدا أن يكون الآخر مكشوفا بعيوبه ،وأمراضه أمامك ، مكشوفا وساذجا! أليس سيّئا أن يكون هذا الآخر والديك!
قوية …قوية كالفولاذ…رغم نعومتي البارزة ، لا اظن سارة أو عبير أو حتى هيا أو ماري تملكن شجاعتي ،كنا كلنا في البستان الذي يملكه جدي لوالدي ، بشورتي الزهري القصير،وقوامي الملفت ،شعري سنابل قمح لا تعرف إلا الصيف فصلا،حين حاول شغيل جدي في البستان ان يتحرش بي ، بحذر شديد ،قال انزعي ملابسك، وقفت أمامه كوحش صغير،صرخت بصوت مرعب،صدم الشاب ،انهار تماما،اصفر وجهه،ندم ندما لا تصفه سوى عيناه المتجمدتان ، تضاعفت قوتي ،خرجت من منزل البستان،كأن شيئا لم يحدث لم أخبر جنين، ولا أخي داني،ولا أسررت لواحدة من أخواتي ، بأية كلمة…لليوم لا أدري إن تركت هذه الحادثة في داخلي شيئا أجمل من لذة القوة…والكتمان…
لطالما أبهرني علم النفس ،لا العلماء ،لا أعرف المدى الذي يصلونه من العلم وكيف يختبرون استنتاجاتهم على أرض الواقع،بطريقة ملموسة ،لا أنفي إنجازاتهم ،قلت لا أنبهر بهم،فأنا أؤمن أن بداخل كل منا عالِم سيكولوجي يحاول الشفاء مما يحل به حين يحل على الوجود كجسد وروح، تذهلني قدرتنا على التكيف مع كل تلتقطه حواسنا ،وما يحلله الدماغ من ما تنقله الأعصاب من ردات فعل وأفكار ومشاعر ،كم مرة هبطنا ها هنا في ما يُسمى حياة! دراسات مهولة تشيب شعر الرأس، وتمتعني شخصيا بل أستشعر الاوكسجين يسري في تجاويف عقلي فأتخدر! الزمن وهم، نحن ظلال، نحن في الدورة السابعة الصغيرة من الدورة الكونية السابعة الكبرى!
أمّي جنين، يرعبها الجنس وكل ما يتعلق به، لو فكرت به وهي الذكية جدا رغم عدم ارتيادها أية مدرسة كحاجة بيولوجية لإشباع الرغبة واستمرار النسل لما تعبت وأتعبتنا معها، كانت تنقل خوفها إلينا نحن بناتها ولم يسلم داني من الأمر حتما ولا أبي،كانت متقدمة في التفكير التحليلي مع قصور في الوعي، لذا خلقت بيننا وبين أبي وأخي كذكرين فجوة ملؤها الرعب…آمنت بأن الخطيئة قد تحدث مع أي كان، وأوضحت الصورة للجميع ،مع أنها لو لم تجسدها كتصور لسارت الحياة بيسر وكانت أجمل! خاف أبي من عناقنا حرصا علينا ممن؟ حرص قبيح…خاف أخي أيضا..وهكذا ظنت بأنها ارتاحت قليلا حين نفّست خوفها القديم فينا جميعا.. أكان خوفا من هذا الجيل ،أم من أجيال خلت…من يدري؟
وندي عزيزتي لا تذهبي..ابقي بعد..
هكذا صارت تعبر أمي عن حبها لي،بدأت تُشفى! يا للغرابة! لم يكن ذلك باكرا جدا..مات أبي، تزوج أخي،أخواتي تزوجن،أنجبن،بقيت جنين كجبل لا يهتز ،اليوم تقول وندي لا تذهبي حبيبتي…لم تحاول تنفيس حبها بغضب أو لؤم غير مبرر كالمعتاد..
أضحك.. يضحك قلبي لها..ترى ما هو السر الذي يربطنا بالأم مهما كانت عليه من حنان أم قسوة ؟ أهو الرحم أم حبل أثيري ؟ أم كلاهما ؟ فمهما ظننت أن البعد عنها أفضل حل للراحة والأمان، تعود إليها كزوبعة تبحث عن ضحية ما لتهدأ..هرمونات..جينات..قدر… ولن تسعد إلا إذا تصالحت مع فكرة وجودها ،مع كيانها ،إلا إذا تقبلت أخطاءها الكثيرة كما تتقبل الأم رعونة طفلها..نحن أمهات أمهاتنا هذه هي الحقيقة ،لا يُشفون إلا عبرنا ولا نُشفى إلا بهم.
قصدت سارة أختي طبيبا نفسيا حيث تقطن في العاصمة ،الحياة هناك أسهل ،أكثر تفهما لمثل هذه الأمور،لم تخبرنا بالأمر إلا بعد فترة استجمعت فيها قدرتها على الإنطلاق من جديد..لطالما أغبطتها دون حسد منذ كنا صغارا، اعتقدت أنها مرتاحة من داء العقل هذا..لذا تفاجأت بفقدان قدرتها على التكيف مع هذه المسرحية التي نعيش ،لأنها كما استنتج لم تجد وسط الوجوه الكثيرة وجهها البكر.
أستغرب بشدة كيف للمرء أن يبدو قويا وهو بتلك الهشاشة!
أنا مجرد نسيم يهب ربيعا..خريفا..صيفا..شتاء..على كل وتيرة ينقلب الحال ،أعتدل كبانٍ طيّع كسرته رياح عاتية مرارا ،لكنه يمتلك في داخله إكسيرا أخضر يمنحه فرصة جديدة للالتئام.
عد بي إلى حيث كنا معا روحا واحدة ذات يوم بلا اسم،ذا فصل بلا مسمى..بلا خطايا الأرض ،عد بي لأحبك غريبا..كما لا زلت..وعاتيا ككل الأرياح إلا أنك أقدرها على الدخول إلى رحيق الورد الكامن في..يسلبني العطر قدرة على الدفاع عن مملكتي فترتمي البتلات على خدود الليل تلثم وجنة القمر تستعيد بذرتها ..تلك النجمة البعيدة البعيدة في أبعد مجرة.
يومض الليل فيّ كنجم لا كسواد…كما كل ما نراه..ما أشيع عنه أنه فضيلة! منذ متى وكان الالتحاف بلون واحد طيلة العمر القصير الذي لا يزيد عن الثمانين في أفضل الأحوال شرفا وعفة ؟! منذ متى إلا لما غزت رياح سامة سهولنا الخضراء البريئة فأعملت فيها تارة أناجيلها وطورا آياتها وأخرى مناجلها! ألا تبت أيديهم جميعا أبناء لهب.
أقتاتُ سكرا طيبا أعددته مخففا كوجبة صباحية في صينية صفوف ،لم تنفخ كما يجب ،فالبيكنغ باودر كان قليلا وما زال الصباح باكرا على نزولي إلى أي دكان لشرائه ، لذا غامرت كما العادة، وكانت النتيجة حلوى لذيذة ولكن هابطة ،لم تختمر كفاية.
يمهلني الربيع كي أستعيد وردتي ،الخبيزة بلون الفوشيا الفاقع ! أستلقي فوق طراحة رقيقة على البلاط القديم ،هو قديم الطراز يسمونه بلاطا أردنيا ربما هو مصدّر من هناك، من الأردن…لم أجد تفسيرا أفضل ولم أجد ضرورة ان أسأل أحدا فالأمر برمته لا يعنيني ،غزاه السيراميك منذ عشر سنوات وثمانية على الأرجح ذاك البلاط اللماع الذي يشبه المرايا ،أُشربتُ فكرة أنه موضة مجرد موضة وستبطل عاجلا ام آجلا ككل الصيحات المجنونة التي تغزو عالمنا، وبقيت أعتقد أنه قد تمت برمجتي فعليا لأتقبل هذا البلاط في بيتي ،إلى وقت قريب أدركت فيه صحة ما ظننته مجرد تخدير أو ادعاء!صحيح أني فتاة قنوعة جدا،وتتكيف مع كل الظروف إلا انه من الواضح أن معظم الأمور القديمة ،اليانعة،المفطورة على البساطة تثبت جمالها وجدارتها مع الوقت، حتى تلك البوابة الحديدية السوداء التي هي باب بيتي،العروس وندي، والتي لم استطع إخفاء اشمئزازي منها وانا التي تحب ان يكون باب منزلها من الخشب الخالص ،ألفتها مع الوقت بل إني فعليا أراها جميلة وأكثر عراقة ومقدرة على الحماية ، وأذكر جيدا ،أنني لم أشمئز يوما ما من بوابة بيتنا نفسه بيت والدي وجنين ، وكانت سوداء ولها نوافذ زجاجية! هي العروس تظن أنها تُقبل على عصر جديد تكتسح فيه الموضة كل الساحات وتشقلب الموازين…لكن الحقيقة أن المنزل الجديد،الزوج، الأولاد،الزمن، ليس سوى تكملة الحكاية ،حتى لو كانت ناقصة..جدا..
صرت أحب فناجين القهوة المذهبة،البوابة الحديدية البلاط ذي الموضة القديمة، ولا زلت كما كنت أعشق الشراشف البيضاء المطرزة الستائر من نفس اللون ،الأزهاء الطبيعية الأصص الكثيرة والشرفات وزهور الخبيزة…أعشق الأشياء وأجعلها ملء حواسي ،لذا تعجبت حين قلت لآدم:” أليست رائعة وردة الخبيزة الفوشية ؟ إنها اول ولادة لها…” فأجاب:” وردة عادية..” كيف تكون عادية بحق الملائكة ؟ ! وكرسي الهزاز ،طاولتي الخشبية،حتى الكرسي البلاستيكي الذي يبلغ من العمر أكثر من أربعين عاما لمتانته ،والذي غطيته بمنديل لي ساحر من قماش سميك ،مع وسادة ،للجلوس بأريحية، وعلى الطاولة نبتة ومنفضة…وقرآن صغير…كيف يكون كل ذلك عاديا ؟!
وبينما دار كل ذلك في بالي في لحظة ،تنتبهت إلى أنه صار وقت الغداء ،هيا بنا،قلت لآدم،دلفنا للداخل ،تركت الشرفة والزهرة ولم تتركني كانت تعلق فيي بطرف ثوبي كنوع من فرح صغير مقيم…أثنى آدم كالعادة على لذة طبخي والأولاد كذلك ،فأنا ماهرة في إعداد الطعام والحلويات وفي كل شيء ،الا الرفخ فهو من مهمات البيكنغ باودر ،ولا علاقة لي بالأمر…
تستطيع أن تتنصل بمهارة من كل شيء ،حرفيا،من كل شيء ،إلا من الحقيقة التي تسكن في داخلك فهي ترن كمنبه الصباح ،لكنها ترن في كل الأوقات ،خاصة حين تتكلم عن الشوق ،عن الحب،عن الرغبة ،عن الحياة وعن حبك لها…
كان رنين المنبه يزعجني في ما مضى ،أما اليوم وبعد مضي عشر سنوات على مكوثي في عملي في المكان نفسه في المركز نفسه ،لم أعد انزعج بتاتا،فنهوض الصباح مازال عادة صحية ،وحتى العمل المنهك صار حاجة ومتعة.أوجاعك وندي،آلام القدمين، رباه! تمر ليال أشعر فيها أن شرايين ما في رقبتي ترسل أوجاعها نزولا إلى كتفيّ، فيتملّكني وجع مبرح، كحريق يشبّ في غابة ، لكنني هنا أعرف أنني بحاجة إلى وحدة،ودموع… النوم في حالتي هذه لا يشفيني أبدا ، ربما الاستلقاء…أغلق عيني الداخليتين أكبس زر ( أوف) لكل الأفكار وأسترسل لموجة هادئة عميقة من الطيران…أطير نحو أي مكان، أنزلق، ثم أفرد جناحيّ، وأتابع التحليق…هكذا…وقد أسبح في بركة من الدموع ، تغسلني… استيقظ بعدها من سكرتي ، ويعاودني نشاطي المعهود، هكذا أشرّج نفسي، أشحنها ،كما أشحن هاتفي…
يتوقف الزمن أيها الغريب حين يحضر طيفك..حين تشرق شمسك..حين تتأله…كأدونيس…يخصب قلبي بفرح مخيف…مخيف من شدة اتساعه وعمقه..الهواء نقي هنا..له رحيق..تندفع فيه زهور البابونج الأبدية المحفورة على قلادة حول عنقي… في أذنيّ قرطان،واحد بشكل شمس والآخر قمر،هما أنت، تارة في الليل،وتارة في النهار..أسأل نفسي حين ألتقيك سرا..خلف ستار الروح ..هل كنا حبيبين يوما ما؟ أخوين؟ عاشقين؟ باشقين؟ شجرة و وذو فقار قطعها ليكون معها..في عالم آخر..في جيل آخر ..في مكان ثانٍ؟
تأخذني الزقزقة هذه إلى ذكرى بعيدة قريبة ،وهل الطفولة سوى بذرة تنمو في داخلنا حتى إذا ما كبرت بقيت هي تلك البذرة طافية في وجوهنا ،في احمرار الخد ،في تعرق الجبين ،وفي جملنا القصيرة تلك التي تنطلق بلا إذن. متى نسيت نفسي وبذرتي ،متى غمرتها بالتراب حتى جئت اليوم لأزيله عنها…لأعيدني إليها لأعيدها إليّ؟ أيهمّ متى ؟ لا… أنا هنا..كالريح تماما..كاسمي… جئت من خلف الضباب البعيد الذي قذفني لعتمته ، وأرعبني ،الذي تركني للوحدة ،للغربة عني ،جئت لأولد، وتركت جثتي ،جسدي القديم سمادا لذاتي ،ولمن حولي…تأخذني الزقزقة إلى نفسي القديمة الأولى قبل الضباب ،إلى الأغنيات والولدنة ، والنوم الطويل ،والشرفات،للرقص، والقفز…لوندي الصغيرة…وفي أثناء موتي ،وبكائي،وفي أثناء حزني الطويل وأرقي ، وفي أثناء تمزقي وألمي ، كنت أهضم كل الطعام الذي تناولت ،خبزي، كفافي ،والآخرون، ضدّي..مرآتي وثمار رحيلي عن عالمي الأول…في ليلة واحدة….رحلت من الفرح…تركت الفرح خلفي ،كصديق عابر وسافر…وبت وحدي ،وسط كل الاشياء،لم تكن جنين لتسعفني،ولا أبي، ولا سارة ،أوأليس او أو كل الأزهار والعطور والزقزقات…سألت نفسي: لم أنا ؟كيف يدخل من في سني الصغير سرداب الحزن هذا ،والوحدة والعذاب؟ كيف أنجو ؟ كيف أنجو؟ كيف أن…ج..و..وحين ينقطع النفس…ويتحقق لي علم آخر…ويستيقظ فيّ فكر جديد…أتأمل خيرا ،،عسى الراحة قريبة… ماذا كنتُ لأتألم هكذا؟ صفر إنسان ؟ ام شجرة فتية لم تثمر قبلا؟؟
ومضات سريعة تعيدني إلى مكان لا أدركه ،وكأني أعرفه، يستكين فيّ شيء ، ثم تختفي…
ها أنا عدتُ…وأنتَ أيها الغريب…سفينتي..فمن منا مرداد من ؟ ومن منا الخطر والأمان ،ومن منا المحنة والمنحة ،ومن منا النور والديجور ،ومن منا الوجود والعدم، ومن منا المعنى والضد ؟ لن أخطئ هذه المرة..لن أسلمك للقلم..ولا للآذان ،سأبقيك الحبر الذي لا ينضب،واللحن الذي لا تفقهه إلا أذني ،واللغة التي لا يتكلمها إلا لساني…
يجب ان تبقى الأشياء على ما هي عليه حتى لا تفقد ألقها
ذلك الخاتم آدم، الذي لم يعجبني نقشه الفيرساتشي ،خاتم الخطوبة ،بعته، استبدلته، لم ينبغ ذلك، على الأرجح كان ذلك دليلا على مستوى شفافية ما يربطنا نحن الإثنين ،وهذا ليس عيبك ولا عيبي، هي الأمور تفرض حقيقتها، وكم من علاقات لا تبدي أكثر من ما يعرفه الجميع ،من محبة ،وتفاهم، وألفة ،لكنها لا تتطور إلى مكان تولد معه روحية عميقة ،حبلا أثيريا خالصا ، لا ينقطع. أكثر ما يؤلم معدتي ألما مبرحا كلمة ( تفاهم) لما لها من تبعات وشروط ولما عليها من نتائج.. رغم كل أخطائي الكثيرة ،يعتبر خطأ ( التفاهم) أفدحها ،وأقدرها على إمكانية تصنيف مرحلة شبابي بالغباء.لربما تعمدت الغباء ،لكي أبقى معك آدم،لكي يحصل في حياتي شيء آخر. في اللحظة التي أحضرت فيها الخاتم الآخر،المحبس،بدون أي نقش،أحسست بغربة وندم، لم استطع ان أتقبله كما كان ينبغي أو حتى أن أحبه ويعجبني كما توقعت…هناك أشياء لا تباع ولا تستبدل! لم يزعجك الأمر برمته،لم تفلح في جعل الأشياء مميزة عندي ،ولو لم أكن أستسيغها! لم ترسم الفيرساتشي في خيالي كامرأة هاربة تركض في حقل بردى ، هاربة من معبد فرعوني!
كم نفلح نحن في تلوين الاشياء ؟ كم نريد ذلك ونستطيعه ؟ كم نحترف الحب وتبادله وممارسته كفعل طيران وهجرة وولادة؟ كم … لماذا لم ترسم اللوحة أو تحاول؟ جعبتك بلا ألوان..والريشة لا تزال ناصعة…نقاؤها فراغي انا. آدم..آدم..آدم..
أيها البعيد..أيها العائد إليّ من ماض ما ..لا أظن مجيئك عبثيا ،أدرك ان استماتتي هذه طريق رُسم لي على سبيل ما…لا أريد أن أسميه،سأتركه وعرا، كما هو، لأتألم كلما هجرتني،كلما جرحت حجارته قدميّ، وأرى الدم ينزف منهما ،والجرح كوردة جورية، أستحق جراحي ،كرمى لآدم ،كرمى لعهده لي….كرمى لبقائه هنا…كليل..كحجاب يقيني نفسي وغدي…ولا مجال لندم أن يجرفني نحو البحر ،فأنت بحري وكلي ، والندم لا يليق بلغتي ،التي أرسلها على تخوم الورق والليل والجراح…ما لمستك عنوة ،أنت من لمسني كنسيم تسلل من نافذتي ،ولمس اليمامة قبلي…هي رحلت وأنا باقية هنا للأبد لك..لك..
اسمح لي أن أتقلدك كأيقونة ،ككاهن معبد قديم وأنا عابدة تؤدي في قلبك صلاة مقدسة. أحتمل كل الأشياء إلا أن تكرهني،حينها فقط ،أعدك أني سأختفي كسحابة انهت طقوسها أمام البحر…وتبخرت..لكني لا أجد سوى المحبة تجرفني نحوك على نحو غير عاديّ..فمتى صرت إنسيا يمكنك النسيان وكرهي ،لكنما أنت من سلالة لا يعرفها إلاي.
أحبك بجنون ،يقول لي آدم…وكراع قديم يمضي مع كلماته للحقل وحده،ولا يراني إلا وردة أو سنبلة…يقيس بنصري بخيط أبيض، يرشقني ببساطة لا تلمسني، بيننا مدى لا يتخطانا ،لا يخترقني ،ليس ضوءا،ليس نارا، ولا حتى نسيما ،من أنت آدم ؟ لم اخترتك واخترتني؟أنا لا أنوي أن أشوه صورتك ،صورتك صورتي ،وأنت مرآة مرحلة كنتُها ،وأنت حاضر زمان عشته بكليتي،وأنت مصهر تجارب خضتها بإرادتي ووعيي… سامحني.
عادت الحرب من جديد ،كانت وجهتنا العاصمة ،كالحرب السابقة ،وكالتي تسبقها، ثلاث حروب عشناها ،لم تكن سوى تجارب جديدة للحب،للخوف،للوحدة، انهزمت ثلاثتها،فلا حب،ولا خوف،ولا وحدة…ثمة ما كان يسكنني ويؤنس وحدتي ، ومم أخاف ؟ هل يستحق الأمر العناء والموت ملازم لنا ،كتلازم الطرة والنقشة في عملة نقدية ،لعبة حظ ووقت وقدر…أما الحب فليس بمقدرونا اختراعه مهما حاولنا…سينحسر يوما ما…سينحسر…
لا تخيفني الطائرات ولا القاذفات الصاروخية،مع أنها تطورت كثيرا، بالستية ،مدمرة،سامة… الحياة مفتاح بيدنا ،متى قررنا تسليمه متنا، لا علاقة لتلك المدمرات بفنائنا..هذا محض وهم…ربما سيغضب رأيي كثيرين ،لكنه الحقيقة التي تحوم في بالي ولا تبرح وعيي ،نحن إما حياة أو موت …
أعزف مقطوعة موسيقية بلا بيانو ،بلا أية آلة ،أدعو أحدهم ليرافقني في عزفي بلا آلة، يحضر وجه لا أعرفه،يمكث قليلا،يغادر، آدم ينسحب ،يقول لي : لا استطيع العزف، تأتي أنت،في جعبتك ألف ألف مقطوعة جميلة ،نختار سويا كل يوم واحدة ،مرة للقداس والصلاة ،ومرة للرقص في الطبيعة.
في الحقل ،نلهو بعد العزف،نتمرمغ فوق العشب الأخضر،نشم عبق الدم،من الزهر ، كم شهيد هنا احتسته الأرض قدحا للانتصار…أتذكّرُ كيف رأيتهم في زنازينهم الضيقة كجثث بأرواح تصرخ من الألم،لكن نورا أبديا يشع في أعينهم كشمس الوطن ، يوم التحرير ،قصدنا كل حقل في الجنوب ،كل معتقل ،كل كهف ،كل تلة…كنت مع أبي، وأخوتي ،كنت أنت في مكان ما ترقبني وأشعر بك ربما ،أو أتخيل ذلك الآن. مشكلتي أنني أضخم مشاعري نحو الأشياء والأشخاص على نحو غريب،لكن أحس أن الأمر معك مختلف ،دعك مني..
خرج اليمام كله من معتقلات الجنوب ،أبناء هذه الأرض مجبولون بترابها على نحو فينيقي ، وكأن اليسار روح الأنوثة تغمرنا في عامل ،جبلنا القديم ،على تخوم صيدون وقرطاج،صور اليوم…من طرابلس عند أقدام الشام وحتى رأس الناقورة قبعة فلسطين ،نعيش الحرب والصمود والثورة كأجدادنا العظام، نخزن السلاح تحت كل شجرة ،لتثمر شهداء بعدد تفاحنا ،وليموننا ، وزهورنا…نصيبنا أن نقع هنا في قلب العالم ، كبحيرة صغرى ،تستميت كل محيطات الوجود لها ،لتضمها لمائها… فيها زهرات لوتس نادرة ،ربما هذا هو السبب.
بالطبع نتأذى في الحب،
ذلك أن لدينا حاجة هائلة إلى إقحام العُـنف فيه،
كأنما الحب الذي لا يدمّـر فعل ناقص،
كأنما المطر الذي لا يغرق لا ينبت الأشجار(عاكف كيشلو)
مثل كلب شارد ينبح في غابة،مثل خنزير بريّ يتناول الفراش والزهر بدلا من الجيف ،في غابة شوبان الغامضة،حيث تزرع النوتات عقدا جديدا من اللؤلؤ الشفاف،هو نوع آخر من اللؤلؤ نسجته مخيلة المحيط في هذه الليلة الغريبة ،في الغابة الغامضة الموحشة ،حيث انا والليل والنجوم وقمر شارد ،وكلب ينبح في الغابة يبحث عن معنى الوفاء فيتردد الصدى..عميقا مثل معروفة حزينة… كيفظة الموت في قلب محترق….و هناك خنزير هارب من تهمة الجيفة، يبعث عن معنى الطهارة ،عبثا لونه الوردي يعينه…عبثا عيناه الغارقتان في المجهول…هي الغابة اقتحمتهما معا..انا وهي والليل….وانت مثل وطن هارب..مثل تذكرة مزقتها الريح..
عليك أن تبقى متشبثا بالقدر كشيء محتوم،تلهث خلف الأشياء العادية،تثبت أشياء ولا تكون أنت…مجبور على متابعة الحياة كالعادة بينما انت تغيرت تماما ولم تعد تلك النسخة السابقة ، يكبر الجميع بصورة غير اعتيادية،يبدون تأقلما سمجا،مملا،مع الواقع، ينغمسون في الكهولة ،في العجز والاستكانة،تنظر في مرآتك فترى روحك معلقة على شجرة الحياة ،وأنت الإكسير المولود توا،الخالد ابدا…تزحف الأشياء أمامك بعدما كانت تهرول، وأنت لا تزال تلك العاصفة ،ذلك النسيم الذي لا يهدأ.
اريد ان أحضن آدم من جديد ،فلأكن فتاته! فكرت وندي بذلك منذ الصباح الباكر ،راسلته عبر الهاتف ،من عملها ،في الكلية، اندمجت تماما في مشهدية جريئة ،قوية وشهية ،قرأتها الليلة الماضية بينما تتابع مطالعة ( كافكا على الشاطئ) خزان من الرغبات والمشاعر المتدفقة تحمله هذه الرواية بين يدي وندي،وفي مخيلتها نسجت كل شيء،الإحساس،الجرأة،والمكان. لربما نستطيع إصلاح الفتور،فكّرت بجدية وتصميم. لا نفلح في كثير من الأحيان في خلق الحب،أو خلق كائن بشري،من فكر ومشاعر،خائبون لو ظننا أننا سنصلح العالم،ونصنع الرجال،الرجال يولدون رجالا أو يحيون ويموتون بلا جنس محدد. ربما هذه الأيام العصيبة التي نعيشها نزعت كل أثر لرجل من حمضه النووي،جففت منابع الذكورة، كفيروس فتاك،بلا مضاد ،بلا لقاح،بلا علاج.
نحن نموت يوميا ،حين لا نعيش الحب ،الحب قاتل لكنه يحيينا،معادلة غريبة،لكنها حقيقة ثابتة،وسيثبتها العلم يوما .ان تعاشر الجسد يعني أن تعمل خيالك عنوة،لكي تحقق النشوة والسعادة ،ربما تتجاوز مع الوقت الإحساس بالذنب ،لكن حينها ستصاب بخيبة أمل كبرى ،لأنك لم تعد تجد مبررا لبقائك ،ومع ذلك انت مجبر على البقاء.سيملؤك الحزن بعد كل نشوة،كمن تناول وجبة صحية، واكتشف بعد لحظات أنه لا جدوى من ذلك ،ولا قيمة له على الإطلاق ،فلا صحته هي بالأمر المهم،ولا طبقه ينطوي على لذة غير عادية.
متى اكتشفتِ وندي أنك لست عادية؟ لطالما كنت ودودة مطيعة ورقيقة… كيف تفجر هكذا بركان الرفض من أعماقك،متى تنكرت لكل الآراء الممجوجة والمكررة الرتيبة؟ لقد كنتِ حملا وديعا ، ملاكا يخشى الخطأ،متى قررت أن تواجهي طينك ونارك ،أن تقري بوجودهما؟
لا أعلم كيف تغير آدم بهذا القدر ، لم يعد هو ،غالبا هذا ما كان عليه ،والآن اتضحت رؤيتي،أفكر، ثم يخطر لي، ربما الأحزان العميقة التي يعيشها دون وعي منه، ولم يعترف بها أبدا ظهرت على السطح..لكن..لكن ..أين تلك الإرادة؟ الرغبة؟ كيف تلاشتا؟ ولماذا الآن… كانت الأعراض بائنة منذ تعرفت إليه،أو هكذا اعتقدت، لكنها بدت عوارض سطحية تُعالج! لكن العكس ما حصل ،وانتهى الأمر. نقطة انتهى. آدم لم يحيا داخل وندي طويلا ،لطالما رفرف فوق سمائها مثل باشق زائر ،مثل أب من جيل سابق جاء ليعوض لها غياب والدها الذي فقدته حضنا في طفولتها، وحضورا في شبابها…كم ارتحت الآن! تنهدت وندي…عندما تتضح حقيقة ما في داخلك تشعر بارتياح غريب، كإجابة عميقة تذوب في اللاوعي ،وتقبع هناك بسلاسة كتوقيع.آدم هو أبي.
حين عدت من عملي،كنت لا أزال أعيش تلك المشاعر المتخيلة،لم أسمح لفكرة سلبية واحدة أن تنزلق عبرها،تركت نفسي لها، كما أترك موج البحر يتقاذفني على هواه حين يكون رائقا في يوم صيفي هادئ…بقيت أنتظر اللحظة الحاسمة التي سأكون فيها فتاته،كما يحلم أي رجل…واكتشفت ما اكتشفته ،لقد صار أبي، نقطة انتهى.وعدت إلى نقطة الصفر.
لا أحتاجُ معك( مجازا) إلى إثبات أمر الحب ،او الإحساس بالاشتياق ،أندفع تلقائيا لإحدى صورتين كلما هب الشوق وعصف في صدري وقلبي وخيالي،الأولى صورتك المحفورة في أبدي العميق والثانية احتفظت بها لتراها عيني فيما تجلس أنت على الشاطئ مثل فتى الرواية( كافكا) التي قرأتها مؤخرا. لا أحتاج معك أنت بالذات لمسوغات ،ولا يبلغني أي إشعار بالذنب ،فأنت حقيقتي أنا التي لا أخجل بها ولا أنوي بالمرة أن أسميها تحت أي مسمى ،بكل بساطة أنت موجود ،حاضر، تلحظني،حتى ولو لم يبد ذلك ،وكلما نويت أن ( أكرهك) سخرت مني حواسي ،أفأخون نفسي وذاكرتي التي امتلأت بوله نحوك لا يُمحى؟
لماذا تراني أكرهك أو أحاول ذلك ؟ ألبعدك القسري أم المتعمد ؟ كلاهما لا يعني لي شيئا ،مصطلح الكرامة المهدورة سخيف أمام ما أحياه من حقيقتي ،فليرحل من يرحل،وليهجر من يهجر ،هناك من يخبرني بصدق أنك معي ،تكلمني، وهو لا يكذب.
عبثا يحاول المرسى ترك السفينة… إنها قابعة في قاع المحيط اللازوردي ،لكن شباكها تضرب بخيوطها الحريرية نحو الشاطئ…الرمل هنا أحجية البحر… الصدف يكتنز أسرار من مروا من هنا…والسفن مهما ابتعدت تبقى عالقة بالشطآن…على شكل ذكرى.
حين أقترب من آدم أحيانا ،يتناهى إليّ عطر جسده الطبيعيّ كعطر ملح البحر ، كندى الصباح ،أتنشق عبيرا آخر، لكن المشهد سرعان ما يتبدل كصحراء تظهر أمامك بعد واحة صغيرة… هكذا هو آدم عطر خفيف يظهر فجأة ،يهب قليلا ويتلاشى بسرعة مع اللاشيء مع الفراغ… هو صدفة…نسيها الشاطئ… وهرب منها اللؤلؤ ذي فجر سحيق ،لكن لونه الأبيض الناصع ،الموشى بالذهب المعنوي( رمزا) ما زالت آثاره بادية على قشرتها…صدفة بريئة… تخلو من العمق…هربت منها أسرار الماضي ،صور الذكريات ،ووشوشات الموج للمدى.. حين دنوت منها ،كانت لا تزال آثار بسيطة من تلك الأحاديث العتيقة ،من الحبر..والأوراق ،ولكن …حين أمعنت النظر ،حين انقشع الملح عن رموشي ،نظرت …فإذا بها خاوية… ذاب الحبر صار ماء…انسكب في البحر…صارت الأوراق طحالب…دبقت… التصقت قدامي بها… والعطر..عطر البحر لم يتلاش تماما ..بقي في مسامات آدم كشاهد على حكاية ما…لا اعرفها.
في المنزل ركن دافئ ولذيذ ،،المطبخ، حين أشعر أنني لا أريد قراءة كتاب،أو متابعة فيديو ،أحضر صفوفا،وهي نوع من الحلويات ،تعلمت مؤخرا من بطلة رواية هدى بركات ،هنادي، أن أرش وجهها بحبات اليانسون ،منذ زمن بعيد،حين كنت لازلت أعيش في بيتنا ،مع جنين وأبي،كنت احضرها وأدرك أن اليانسون له سحره وسره فيها،فكنت أنقع حبيباته بالماء الذي سيضاف في النهاية لخليط الطحين والكركم والزيت والسكر والحليب المجفف ، لكي يعطي نكهته،بينما أزين وجه الطبق بالمكسرات ،علمتني هنادي، أن أنثر اليانسون ،فيكون حضوره أقوى…أفكر بجدية ، هل علينا أن نوارب دائما؟ أن ننقع مشاعرنا بماء الحياء والانتظار..نحركها ببطء لنؤجلها قليلا ،نود أن نتذوق نكهتها الشرقية المعتقة بطعم العشب القديم ،الذي نبت في أوائل القرون البعيدة ومازال ينبت كشاهد هو والبابونج ،والصعتر، والمريمية ،شاهد على الحب…نعم الحب الطازج..
يرافقني صوتك في الأزقة الدافئة،حين يسير الليل فيّ وحدي،ويهجم عطر ورده الأبيض ،عطر الليل،اسم الورد المعربش على الحيطان،حيطان الأزقة،فأنسى لو كنت في الربيع أو الخريف ،في الصيف أم في الشتاء ،فالمطر زخاتك انت تغسلني ،والورد قمحك الذي جناه فكري ،والأوراق اليابسة تحت قدمي ،ما هي إلا ما حطمته أنت من أوهامي، والبحر الأزرق عيناك وثوبك الأبدي ،يرافقني صوتك في كل مكان ،في اثناء عملي ،يهمس ،كاستراحة منعشة ،من قيظ،.
غزالان..يقفزان…والحقل بعيد…بعيد…كأنهما نقطتان…بؤبؤان…يحدقان في قلبي…يقفز قلبي…مثلهما..صدري حقل ومدى…وأنت غريب ولست غريبا…غزالان يقظان للأبد.
غزالان نحن أنا وأنت نرقص على وتر البعد والهجران…قررت أن أنساك وأقطع الحقل الذي يبقينا في اخضرار..لكن المطر ما فتئ ينهمر…والعمر اعشوشب بيننا كأبد محتوم…هذا الحزن شلال غزير…والحقل حبل من أثير…غزالان نحن يقظان في فكرة الوجد والوجود…للأبد حزننا…ورقصنا…يلمسني ضوء الصباح…وندي استيقظي…يهمس…بين بين أنا ..في عالمين…ولا أستطيع البقاء في كليهما…أتأرجح على حبل الوهم الرفيع… زمني…ضائع زمني بينهما…آدم ..وهو ..أنت…يقهرني الوقت يحرمني منكما…لست لكما …أنا لي…وحدي…كما اليمامة رحلت وحدها…والفراخ خلقت منفردة…سيتركني الجميع قريبا لقبري…بينما كنت بينكما أتأرجح بين حبين…بين الحياة..وبين العشق،بين الجسد وبين الروح… أحيا الآن مع وجع الذنب نحوك، أعاقب نفسي بالدمع،والوحدة،لا أجد مبررا يبرئني ، أحبك بقدر ما لم أستطع أن أحبك يا آدم، أيها الرجل الوديع ،الذي أعانني على الإبحار في ألمي، ساعدني على امتلاك الوحدة،واستئناس الوحشة ،منحني كل المساحة الممكنة لأكون، لأنحفر كما أنا تماما في ذاكرة أيامي، مدّ يده لي ،فخرجت من الشرنقة،لكنه لم يحظ بي يوما كما لم أحظ به… بقينا على مسافة ،والتقينا على سبيل صدفة الحياة ،على سبيل ألمها ،اجتمعنا في سرير ،يملؤه بكاء الغربة ،ومحاولة اللجوء لوطن غريب… سأشعر بالفقد لو رحلت آدم…لا سوى لأنك طبعت كياني بختمك، أبكي نفسي ،أبكي ألمي، أبكي هذه الغربة ،أبكي اللاحب ،أبكي الخذلان… خذلتُني وخذلتُك…عوّلت على أنني سأتماهى مع الدور والمشهد ….لكن الحياة كانت أطول مما ظننت ,انتهت الأدوار باكرا جدا.
لم أعد أستطع الصمود أكثر من ساعة في أي مكان فيه بشر ، سرعان ما تتسارع نبضات قلبي، أشعر بالغثيان،تناديني الوحدة والشرفة،والوردة. صرت أبحث في مخيلتي عن موت صغير يُنجيني مما أنا فيه، فحضورك أنت أيها الغريب عرّاني تماما أمام نفسي ،أوقف الزمن ،صار الزمن مجرد وهم ورقم، أوقف الهذيان الذي أعيشه ،أجبرني على إزالة القناع والواجب والذنب والهروب من الحب.
أتدري ،أنا أشعر بالرهبة تجاه الموت…اللاشيء أو كل شيء، لست متأكدة تماما مما سيحدث هناك، حتى هناك أمر غامض بالنسبة لي، ما معنى هناك وأين هو…؟ أنا مرعوبة جدا من القبر،والتراب،والحجارة الثقيلة ،يا إلهي ما أثقلها! متعبة من كوننا مجبورين على ( الطاعة) مخافة هذا القبر وما بعده…رغم كل التطور لم نستطع التصالح مع هذا الخوف الكبير… – وندي…؟ بم انت شاردة ؟. – لا شيء آدم…لا شيء مهم… لكن عليك أن تعرف أنني لست سعيدة معك… أعتذر عن صراحتي،لم تكن الرجل المثالي الذي أردت… اعرف ان كلامي سكين ،أنني قاسية ،مجرمة، لا أريد أذيتك ،لكن لا أريد أن أكذب،وصلت إلى مرحلة ،أريد فيها أن أكون حقيقية وصادقة وإلا سأمرض تماما..صدقني…
لا أعرف كيف استطعت ان أفعل كل ما أفعله بآدم…وهو ما إن يسمع حقيقة ما أبوح به، حتى يغرق في هم صامت يزيده سنا وبؤسا،ويزيدني حزنا وذنبا ، وأشعر بعيد ساعات برغبة قوية في أن أضمه وأشفي ما سببته له من جراح وأوجاع…كأم تماما…وهو الطفل اليانع… يحزنني صمته…يوجعني انكساره..وأنوي للمرة الألف أن أتوب عن حقيقتي ،أن أسلك مسلك الرهبان الذي اخترت في البداية ،أن أتغافل عن أنانيتي التي تصرخ من داخلي..لكنني ما زلت أرسب..وما دام آدم يزداد حبا بي وشغفا وألما وانكسارا… يحاول إرضائي بكل ما أوتي من قليل…لكنه كل ما يملك…فيزداد عقلي وضميري إصرارا على متابعة ما بدأت…على التخلي عني..عن وندي..على الشقاء…لأجل الواجب والأمومة…
أنت المعنى..أنت الباب…أنت النور والحب..من ضوئك أنت من ضوعك،من وجهك ،ومن ورد البابونج الساكن فيه،لا زلت هنا أنبض،قرب نافذتي وعلى شرفتي وفي وحدتي ، في خيالك شيء يجعل الذنب ممحوا ،أن أكون مع آدم وفية ،طاهرة، وأكون لك في مرآة وجودي ،قنديلي الذي يهديني لأخلص أكثر وأطوي همومي ،وأعلو عن قهري الذي يصهرني كشيء ،كمادة، كحجر ،كمعدن من المعادن….وكلي أمل أن أبقى متوهجة من ظلك ،ورغم قسوتك أسامحك بلا هوادة…كأن هذا أجمل أقداري.
أحب نفسي من خلالك…أعشقها
فقط انتظرني عند حافة البئر سنسقط معا…لينبت النرجس… قولي لي أيتها النرجس..هل يحبني ؟
في أية حفرة أوقعت نفسي يا ترى؟ كيف سأخرج من البئر بعد اليوم…كيف …من أخبركِ يا وندي أن الحب أمر رائع؟ من ؟ العيش بلا معنى…أمر سهل للغاية… لكنك كنت تندفعين نحو المجهول على نحو ما … هذا ما قادك إليه… ها هو يحط على النافذة كيمام مسحور…كأمير غائب…وهل يُشفى الغياب ؟ هل يُشفى ؟
لقد تغيرت بنين كثيرا..إلى الأسوأ… بعدما توفى والدي، أثناء مرضه، وقبل ذلك ، لم تكن جيدة…لا أذكر من ذلك الكثير ،أليس هذا دليلا على أنها لم تترك فيّ ما يعبّر عن حبّ صغير ،عن حنان بسيط يافع ،كحنان الأمهات الرقيقات الساذجات ،كانت ذكية ،قوية مع رتل من الذكريات المؤلمة وفكر تحدّه بعض الضوابط الصارمة ،كانت تخاف ممارسة فعل الحب بالكلام والأداء وتبرع في ادعائه عند الحاجة…أنا كإحدى بناتها الثلاث كنت على مسافة منها،أرى روحها كما هي،أسمع نبضات خوفها، أتمشى على مها فوق رصيف هواجسها كيما تلحظ أني هنا…أعرف كل شيء..ولكم راودتني فكرة واحدة لطالما فرضت نفسها عليّ ،على فكري وقلبي( لِمَ هي أمّي؟ لِمَ أنا هنا تحديدا في هذا المنزل ،مع بنين ،مع هذا الوالد الذي يكتنز ألف رعب، مع أخوة مثلي ضحايا الحياة ،إلا إنّ كلا منا له عالمه وطريقة استقباله للأشياء… لكن ما دفعني لطرد هذا الخاطر كرهي لكلمة ( ضحية) لا…لست ضحية احد! إنه ليس هروبا من المشكلة بل هو تأكيد على أنني من يتحمل مسؤولية الوجود هنا على قيد الحياة…. عشت أعواما طويلة أتصالح فيها مع كل الأشياء ،مع من اختارتهم الطبيعة ،وقدري،واستحقاق وجودي ،لأكون بينهم ،سعيدة او راضية… أما الحزن .. فهو رفاهيتي المطلقة التي أحتفظ بها لنفسي لأنعم بالخصوصية معي أنا كوندي ،بلا روابط ،بلا أسماء ،بلا ألقاب… وكنت أنت بلا الماضي المخزّن في فعل الكون هذا ،مستمرا، في لحظة الآن،الفارغة من أية فكرة،معي في لحظاتي الخاصة ،كشعاع يضيء من قنديل يمدّني بالمعرفة، كيمامة سقط غصن من فمها سهوا على حافة نافذتي ،كعش ما زال يكبر كل يوم…وحين تينع أجنحتي الصغيرة ، تحلق أنت في البعيد ،ولكن للمفارقة لا تبقى ذكرى ،بل حضور عطر، في كل لحظة،مع كل زهرة بابونج،مع كل نبتة أغمسها بالماء المقطر أو بالزيت ، كزيتون وتين ،وهل الجنة سوى هذا النهر الممتد بيننا كجسر بين عالمين ؟. ورحلت…. لا لم ترحل…تركت لنا المسافة ، وعبّدت الطريق ،كي لا نقع في حُفر المعاصي ،وأنت تدرك جيدا كيف تحترق الكواكب….لتلمع للأبد…
هل كان مثاليا يوم لقائي بك ..آدم ؟ مع أني نذرت أن يكون ضميري الذي أخاطبه..لك وحدك أيها الغريب..إلا أنني أجدني أخاطبك انت أيضا..آدم…مثله…لا يسعك أن تكون غائبا مثله…ولا حاضرا مثله…لكل منكما خصوصيته النادرة في الحضور والغياب! أنت شعلة الوقت المخزون في لحظتي…. آدم سرّ القدر الذي يجمعنا بمن عليه أن يرافقنا الطريق…
فهمتَ عليّ الآن… هو الرفيق وأنت البدر….
أنت البدر وهو الرفيق……
لك أن تفهمها….
**“عندما تُقاتل ضد والدتك، فقد تصل – وعلى مسؤولية إصابة غرائزك – إلى وعي أكبر، لأنك بنفيك للأم، تنفي جانبًا غامضًا، غرائزيًا، ولاواعياً من طبيعتك.”**
غادرت وندي غرفتها والنافذة …كاليمامة إلى غير رجعة على ما يبدو… لقد غاصت في بئر جنين إلى العمق ،ابتلعت الماء،ثم لفظته ، تفتحت رئتاها…دخل الهواء ملؤهما… تستقبلها الشرفة الآن ،وأصص الورد، معمل الأدوية الصغير ، لتضمّد الجراح…الكثيرة…
هكذا باختصار دائما ما أفكر ،أتعب من مطّ الفكرة لاكثر مما تستحق ،أتأرجح بين شعورين نحو امي بنين ،شعور الرابط والحنين وشعور المقت من الرحم الدفين الذي حملني ،يا للغرابة! ما زلت أقولها…تبا لي! ها أنا أتأمل الفكرة ،أبحث عن المسبب لهذا المقت…إنها لا تبذل أي مجهود ولو بسيط..لفعل الحب…الحب….الذي أبذله معها…لكنه سرعان ما يتبخر إثر ما هي عليه…ما هي عليه أمر صعب…جدا. أفتقد أشياء لم أختبرها ، لكنني على علم ويقين أنني ولدت لأكون وندي ،ليست هي ،بنين من اختارت اسمي ،أو حتى أن تحويني ،لم يختر والدي أن أكون نطفته ، مجرد بذرة ،أينعت ،أنا، وهما أرضي،كما اختارها الرب، أرض خصبة ،لأنمو كما افعل الآن…لا أكنّ لهما سوى التقدير والحنوّ الذي يفيض منا رغما عني نحوهما ،مسكينان على نحو ما، إلهان صغيران على نحو آخر، هو يحمل سرا في صمته،وهي تحمل سرا في ثورانها المستمر ،فيها شعلة ذكاء لا يطفؤها سوى الجهل بأسس العلم…وقلة الخبرة ،وفداحة التجربة التي عاشتها…أناملها تخيط أثوابا بحرفة،عيناها تخيطان الهم والغضب،لسانها يغزل التسلط..هي تركيبة تجعلني أقول ( اشعر بالمقت) دون ان يتملكني هذا الشعور تماما ، كقولك أشعر أنني أحتضر ،بينما لا زلت حيا!
الحرب لا تزال دائرة…أتذكر حين كنت طفلة كم تعجبت من وجودي على هذا الكوكب ،استولت عليّ فكرة واحدة ،كيف سنخلد للأبد في مكان فيه اشجار وانهار من لبن وعسل…أو في آخر فيه حطب ونار ،رفضت الفكرة…ثم …سالت الجميع عن ذلك بمن فيهم جدتي، اولا أمي ،التي قالت لي ( رفيقتي كانت تفكر مثلك وانتحرت ،رمت بنفسها عن الطابق الثالث), ثم جدتي لأبي، وهي الأخرى أغلقت باب الشك والبحث لدي بقولها ( حرام التفكير بهذه الأمور…لماذا وصلت إلى هنا؟) كانت تلك الجمل كافية لأكدس الذنب في صدري ،التشويش في عقلي، وعادات القطيع في اتباع الراعي…لكن السؤال بقي حيا في داخلي كنور ،تحت جوف القنديل… واستمرت الحروب ،وهربنا من بلدة إلى بلدة،تركنا منزلنا واستوطنا منازل أخرى لأقرباء من هنا وهناك يقطنون في كوكب آخر ،في بلدي نفسه ،هذا البلد الذي يشبه درب التبانة ،ولكل كوكب فيه خصائصه ومميزاته…
أدرك تماما أن العناية الإلهية الرحيمة أرسلتك لي أنا وحدي، ورغم آدم ،رغم كل شيء ،فأنا ارتبط بقلبك بروحك ككتاب مقدس ،اكتشفته لأجد الإجابات كلها دفعة واحدة ،بالهام واحد ،هبط في القلب مباشرة.
إنها الحرب الرابعة التي أشهدها ، وانا اكملت دورتي ،حول نفسي،حججت، وكنت أنت الشاهد ،قلبي الآن ساحة حب بيضاء ،يسكنها الجميع ،وأنت تشهد من بعيد هذا الحدث العظيم ،كما تدرك أنك بطله الأعظم.
يتصارع فوق كوكب بنفسجي ثور وأسد…هكذا كانت نبوءة أحلامي… وقبلها بأعوام عشر ، رأيت في منامي طائرات تقصف ،وهكذا كان، كنا نودع والدي على فراش المرض، سيطر اليأس على الجميع،كنت ألوذ بآدم لأهرب من نفسي الهاربة من طيف أحمد ،وهالته … من سذاجة بنين وقوتها ،حين تجتمع القوة والسذاجة تولد اللاجدوى ! والقسوة البريئة ،والعنف الصامت ،وأشياء أخرى غريبة…كنت أهرب برفقته إلى ذاتي التواقة ،كنت أرسم صورتي التي أحب ،ولم يكن هو لي جناحا ولا حتى واحدا… كنت أرسم كل شيء..الحب، والأجنحة والمدى… صنعت منه ما أتوق ،فصار هجيني… مزيجا من الأرض والماء ونار باهتة ورياح مطفأة ، كان اشتعالي فرديا جدا ووحيدا ،كمن يمارس الحب وحده في رقصة خيال!
في العام ١٩٩٤, اول عام حرب شهدته ،كان أبي بأفضل أحواله،قويا،حنونا،لا يتكلم ،عيناه تتكلمان ،يتوق للحياة،حين انطلقنا معه ،برفقته،وهو يقود المرسيدس بمهارة وقوة، وفرح مكتوم،لم أشعر أننا هاربين من معركة ،أو نازحين عن وطن… كان سعيدا ونقل تلك السعادة لقلبي،مر بنا وكنا أربعا،انا،سارة،أليف وداني ،في الخلف نبتسم ، لا أذكر إن كانت بنين عابسة كما أتصور، لكن غالبا لم تكن تبتسم ..اشترى والدي لنا أكياس ( فانتزيا) تشيبس ،وكانت تعد في وقتها الأفضل،وظلت بعض الماركات تستحوذ على السوق،كبريسيج، او تراند…اليوم فقدت الاشياء قيمتها،صار كل شيء بحوزة الجميع ، وصلنا إلى الشويفات ،كان الاستقبال دافئا، كانت أياما جميلة ،فيها ميناء وشاطئ،رائحة بحر ،أطباق سمك ،وحبات برتقال صغيرة تسمى ( أفندي) تقدم لنا مع قطع التفاح في صحن أبيض،شوكة وسكين لكل شخص،كان بيت خالتي مميزا،وعاداتها مميزة، جزء منها ورثته عن العائلة كأمي،والآخر اكتسبته من طبيعة الحياة هنا في هذا الحيز من بيروت.ولقد تناهى لسمعي عنها الكثير هنا حي كلاس وهناك حي شعبي ،ولكل طائفة لهجة ،طريقة لباس ،وأسلوب حياة وتفكير ، سمعت عن حروب صغيرة خلف المتاريس بين شرق وغرب،بين رومان وأعاجم…يونان وفرس…وكانت الأرزة قبلة الجميع عند نهاية الأحداث ،وعدنا مع ذكريات حلوة ،لم أر من الحرب ما نراه اليوم ،طال التطور كل شيء ،بما فيه قوة الإجرام…وفداحة القتل ،يتنامى الشر بشكل مرعب…حتى اليمامة رحلت ولم تعد،لم تفكر بي ،وكيف أنتظرها .
في العام ١٩٩٦،حسمت قانا الحرب الثانية التي عاصرتُها،تخيلوا أن المحتل وقتها اعتبره العالم كله أنه خرق ميثاق الإنسانية بمجزرة ارتكبها بحق مدنيين عزل احتموا في مركز الطوارئ…وتخيلوا اليوم من العام ٢٠٢٥ كيف تباد نصف الكرة الأرضية بدم بارد ،بيد العدو المباشرة ،وبأياديه الممتدة في كل مكان ،يصنع الوحوش ليحتل مناطق أكثر،ثم يقتلها بحجة محاربة الإرهاب، حتى حرب العام ٢٠٠٦ أي قبل ١٩ عام ، لم تكن بهذه الوحشية ،قرأت أن بعض المتنورين يعتبرون هؤلاء المجرمين القائمين على العالم،كقوى شر مطلق ،ليسوا من جنسنا…ونظريات كثيرة…لا أعرف كيف أختصرها لشدة تعقيدها وغرابتها…
في العام ٢٠٠٦ ،رافقني آدم، إلى حيث نلوذ دائما ،بعيدا عن الجنوب ،الوجهة الأولى والأساسية لغضب العدو،نحو بيروت ،الأشرفية، لكنني لم أكن وندي الصغيرة ،كبرت، وتغربت عن حالي، غادرتني سعادتي لألف سبب،ألم يلحظ آدم غيابي عنه،أن روحي معلقة في مكان آخر،ورغم محاولاتي الحثيثة لم تهبط إلى حيث هو،كم كنت أدعي القرب وأنا أبعد من مجرة! لكن حين كنت قريبة من صدره،كنت أملأ المكان نجوما كثيرة أشعلها كلها دفعة واحدة، كان لا يبالي بغيابي ،طالما أنني أحترف إشعال النجوم المندثرة… كان يحلم بي على نحو لا أعرفه ،ولم يخبرني به،كان سرا بينه وبين ربه، كما أنت سري بيني وبين ربي.في الأشرفية ،عشت تجربة الخروج من مللي الداخلي،لم أكن بعد استأنس بنفسي تماما كما اليوم،ولكني كنت وحيدة على نحو ما… ابتسامتي من الداخل كانت معلقة دائما عند فكرة ..أية فكرة… أرافق آدم لنشتري حاجيات النازحين الذين يشاركوننا شقة إحدى قريبات زوجة عمي لأبي، لطالما كان محظوظا عمي في كل شيء، عدا ما ملكه أبي،أمر نادر،يعد اليوم رذيلة وسبب فقر،الطيبة ،الصدق،العدل…كانت هذه الصفات ترسم لوالدي حضورا آخر ، لكنه اليوم يتداعى فوق سرير المرض،في أفضل مستشفيات بيروت،ماذا تنفع ، لقد أعاد دفع ما جناه، خلال سنوات قليلة مرتفعة الحظ،منصرمات، دفعها لقاء السرطان الذي ظهر فجأة… تبخرت الابتسامة الحزينة عن فم أبي،وبقي الحزن وحده، الانكسار ،الاستسلام الذي لم أره فيه يوما ،كأن المرض أجبره على خلع ذاك القناع، تلك العزيمة ،لم تكن يوما، سوى محاولة حياة ،محاولة إنقاذ ما تبقى من رجل، عجنته الأيام والطفولة،ومارست معه أقسى أنواع التعذيب النفسي وربما الجسدي…بينما أنا في شوارع بيروت مع آدم نتبضع ما نطعم به جيوشا تنتظرنا ،ونحن سعيدان ،اذ نعيد دفع ما جناه آدم خلال سنوات قليلة منصرمات ،عالية الحظ قليلا ، ندفعه لنشعر ببعض الرضى ،ببعض الفرح…أنا نستطيع أن نفعل أمرا جيدا…لنا ..وللجميع..
هذه الحرب تأكل من جسدنا خبزها ،تشرب خمرها من دمائنا النضرة، تجفف عرقها بهمنا المتراكم ،وحين تهم لابتلاع الأرض، تُفاجأُ بنا عدنا صغارا ،أنقياء، وأن الهم الذي بذلناه ، طهرنا من الداخل،صرنا أقوى … حكاية التبغ،والزيتون،والخبز المغمس بالدم ، لم تكن بالمرة أساطير تُنسى، إنها أساطير للغد وللأبد…لكل جيل آت…
عدنا من الحرب… مع أبي المريض ،مع خسائر كثيرة…شهور خمس وفارق الحياة ، فارقتنا معه ابتسامات خجولة كثيرة، ودفء مخفي، لم ندركه إدراكا ،لكننا كنا نعيشه، رأيت من آدم ما هالني ،وما راقني ، في آن… صار لنا منزلا، لكن سعادة ما لم تكن، كنت كمغمية ،تعيش حلم شخص آخر، حلما بسيطا جدا،رائقا، هادئا… بلا سقف بعيد… كان السقف واطئا ،قريبا،بحثت عن السماء ،حتى اكتشفت انها لم تكن سماء ،ها هي حول الأرض، ونحن نسبح بكل اتجاه ،شيء ما غريب يجعلنا نلتصق بالتراب…ربما هو الحب.
أنت …يا من تمتلك الدفء والحبر والثلج… وقصاصات الشِّعر… والقصائد… كيف جئت لترمم السماء التي ثقبها الوقت… لتجعلها قريبة هنا… أسبح بين أمواجها وأفهم أحاديث الطيور والأسماك…وأخترع الكلمات الجديدة أو أتذكرها على قول أفلاطون.
ورحلت مع آخر طلقة رصاصة إسرائيلية ،عدت إلى الجنوب،ولم أجد نفسي بعد،أبحث عنها، والحزن ملعبي،تتقاذفني تياراته الساخنة كهبوب ريح ،لا ترحم…وأنا…بيني وبين ما أكون ، مسافة ،لم أبلغها بعد، كنت أنضج فوق موقد الزمن، الوهم، ولم أدر بعد أني الساعة التي توّقت الزمن،وأني الحرية المطلقة ،وأني…وأني… وقد رأيت من زمان عيوب آدم…ورضيت بالطريق الذي اخترت ،واختارني، علني أجدني،وأخرج من دائرة الوجع،لا بل أذوب في محورها كي تتقبلني…كما تتقبل السماء الرحبة شمسها المحرقة.
حدث كل شيء بلمح البصر،صار لي ولدان، وما زلت الطفلة التي تمشط شعرها كل مساء ،وتكتب أشياء وتمحوها ، تتأمل المساء ، تحب حتى الانعتاق ، تفعل كل شيء ،تمنح السعادة ، تلعب كالصغار ،تبحث عن فرح مفقود، تجد نفسها ،ترى آدم، بوضوح، تستوعب أمومتها دفعة واحدة ،تتجرع هواء نقيا بلا تردد…تفكر بلا تردد..وتحب بلا خوف.
كيف نكبر هكذا دون أن نعرف؟ كيف تصير لنا حكاياتنا الخاصة ، وهمومنا الجميلة ، ودموعنا الحارة… كيف تصير لنا أوقاتنا وشرفاتنا ، قهوتنا المُرة ، كيف صرنا نتلذذ بقطع البسكويت المعجونة بالتين ،ونمارس طقوسنا المتواضعة بحرية ، كيف صرنا نمتلك بيوتنا ،ومفاتح سعادة آخرين ،ينتظرون منا لفتة واحدة! كيف هكذا حين كبرنا عندا لنقاء الطفولة ،لسلاسة اللحظة ،عدنا نعيش اللحظة كأنها كل شيء، صرنا نكتب ولا نمزق الأوراق… تخلينا عن الأوراق ،وبتنا نحشد أفكارنا فوق شاشات أنيقة ،مضيئة، الحضارة أمر آخر ،غير ما يقولون…أنها نقمة ولعنة أبدية…هذا هراء…الحضارة هي فكرنا المتجلي بوضوح ،والذي يعلن للوجود ،كيف نكبر كل يوم ،لنخلق أشياء جميلة…أنوناكي ،قديسون،أئمة…سمها ما شئت…نحن كلما تأخر مكوثنا داخل الشرنقة ،كلما خرجنا أقوى ممتلكين ذواتنا…. وفي هذه الحرب تحديدا أثبت جيدا من عانوا المر في الطريق ،أنهم استطاعوا أن يغيروا قواعد اللعبة، استطاعوا أن يكونوا حجر اللعب الحاسم… لأنهم آمنوا…بأنهم التغيير…ورغم بعض المآخذ…ورغم توقنا لحياة أسهل من كل التعقيدات التي تخالف الفطرة…والتي نحلم لو يحل مكانها عيش أبسط وطريقة حياة أيسر..إلا أننا نشيد بهؤلاء… ننحني لهم إجلالا…فقد كانوا آلهة صغار…. وغيروا وجه العالم عندما قالوا للظلم: لا…
الكون يغلي يا وندي ،وأنتِ تتكلّمين عن الحب؟. آدم…أنا…لم أجدُني إلا مؤخرا…هل تفهمني؟. يُطرق آدم ،في مكان آخر… كراعٍ يستمد من المدى قوّته على البقاء، قوتُهُ راحةٌ يجدها معي ولو كنتُ على مسافة ،هو يعي كم نحن مختلفان ، هو لا يطير ،ولا حتى يزرع الأرض تحته،هو يكتفي بريّ ما وجده ،منذ زمن بعيد ، يقصد النبع كل يوم، يتكبد الحرّ، والوقت الطويل ، أنظر إلى الزرع ،لا أجد سنابل قمح ،ولا تبغ ، ولا رمان… أتكفي يا آدم غرسات زيتون عتيقة؟. يشيح عني بوجهه ،عيناه متعبتان ، التجاعيد هزمت الدم الذي يسري في شرايين وجهه، العمر سبقه بأشواط ،ودرب السعادة فاته على غفلة…. – آدم…قدّمتُ كل شيء… _ وندي… أعرفُ…وأنا قدّمت كل شيء…. هذا الكل شيء ،حنطة، قطفناها من حياتنا ، حياتنا أرضان ، لم تكن يوما أرضا واحدة…. في أرضه أمان ،وحزن،ومهد قديم… وفي أرضي ثورة لا تهدأ، وفرح يشرب من بئر الأسى ،فيها طائرة من ورق ، تحلق بالحبر وحده.
أنتَ … أنا بلغة ثانية… وأنتَ القمح النضر الذي يتراقص وريح الشمال…أنت الأسى والفرح وبئر تخبئه الأرض في حضنها…وأنت أنت…لأنك في البعد تثبت ألوهية الحب…قدرته على القفز عاليا فوق المسميات… لم أخن نفسي ،لم أخن آدم طرفة عين…كلما حضرت فيّ اكثر….ازددت من آدم قربا..كأنكما خطان متوازيان لا يلتقيان…لكنهما يترافقان على نحو غريب… قوة النور فيك ،تجعلني أراه أجمل ، تجعلني أعطف عليه كأم وأحبه كطفل مدلل…
فرق شاسع يا عزيزي أن تعطف على طفل،رجل،سمه ما شئت ،وأن تستنير بظل رجل ما ،شخص، قنديل أبدي، سمه ما تشاء ، كل من عداك ماض وأنت الحاضر كلمسة فرح تنعش القلب.
أظن أن آدم يقرأني بوضوح رغم ما يبدو عليه من اللامبالاة ، هو يتعمد تلك اللامبالاة كي لا يخسر ، يبدو ان اللعبة تعجبه، وقد فاز كما يبدو. فالأبطال النبلاء ، ينسحبون دائما من معركة سيسقط فيها أطفال ونساء ،يتركون الميدان للوقت…
ظهرت في وقت لا يشبه الأوقات ،فهو لم يحتسب ، كأن ما مر هنيهات قليلة ، رغم الأيام والشهور…. في خضم الوفاء الذي يحرسني، كنت أبحر مع عينيك في بلاد بعيدة، كفارس جئت تستأذن الحياة من حولي ،تقول لها: ” عفوا، سأرافق،تلك الأميرة في رحلة قصيرة ،هل هذا ممكن ؟”. وقد ساعدنا الهواء، الماء،والسماء على الإبحار ،كان كل شيء طوع ما نفكر ،ما نحب… كيد تنتشلني من الحزن والفراغ ،من اللاشيء ،من اللأنا ، تمسك بيدي أنا، صرت فراشة ،والأيام ربيع،والحزن مجرد انتظار وشوق ، والحب جرعة دواء ،وكلمات مقتضبة ،وأحاديث عادية ، وصداقة غير عابرة ، ولطف ، وغضب، وتسلط ، وغرق فغرق في المحيط ،في الغاب،في الأعشاب النضرة…..آدم…..لا تنقذني….فقط سامحني قليلا….
تستيقظ وندي،تلامس شعر آدم،صار أبيض، بشرته لم تعد مشرقة كالشمس ،لا رائحة زكية تنبعث من مساماته…لا حب…لا أفق….لا حاضر….يجمعنا فنجان قهوة صامت وعتاب…أنسكب في فنجانه دفعة واحدة ،لا أجده…لا يتذوقني ،وحين يتناولني ، بشهية… يتدفق بلا نور…بلا عطر… بلا أزهار برية… فيه انكسار…وريح حجارة..وصخر يتجمع في جوفه ماء آسن…آدم…أريد ماء عذبا…لا تدع الأشياء تسلبك الحياة…لا تمت هنا…ارحمني… يدور بيننا ،أنا وآدم هذا الحوار ،بصمت، كلما اجتمعنا…على فراش ، هنا أشعر ببعده، بتلك المسافة الصاخبة…تعود إلي ذكريات اللقاء الأول،الذي لم يكن لقاء حقيقيا ،كان موعدا رتبته رغبتي ، وحبه ، قراري ، وإرادته، غيابي الكامل ،وحضوره الذي ينقصه الكثير.. الكثير مما أشاء.
تتعمد اليمائم أن توقظني كل صباح ،كأنها تؤكد لي أنها هنا، كأنها تريد أن تثبّت بعض الذكريات في مخيلتي ،لأنهض، وأمضي في يومي ، لكنني أخبرها سرًّا أنّ لا شيء يعني لي…ولا أدري منذ متى…لم تعد الأشياء تحفر لها جذورا في زمني…أُسرّها أنّ هديلها هذا أهمّ من أي شيء آخر…وأن الصباح الذي بدأ توًّا يستحق أن يُعاش… أخبرها أنّ من رحلوا لا زالوا يخفقون كما أجنحتها..هنا في البال.. دوما…في كل لحظة…حيث لا ماض…ولا ندم.
تركت أليف منزلها ، في بيروت ، وجاءت لتسكن في الضيعة ،في بيتنا، حيث الجدران ما زالت على حالها ،لكنها هرمت قليلا ،مثل بنين ،أمي، التي لم يهزمها العمر، ولكن…ها هو يضرب جذوره في تفاصيلها ،كأنه ما زال يختبئ ويعد لها العدة لهجوم مباغت…قلب أمي صار مثخنا بجراح أكثر فوق التي كانت، لم تداويها الأيام،ولا الأمومة ،الحق عليها،لم تمارس بنين أمومتها،أو لنكن منصفين لم تستطع ذلك… تركتنا كنافذة مفتوحة في قصر شاهق ، تلعب بها نسائم العمر، يمنة ويسرة، حتى ستارتها البيضاء خاطتها لنا بعناية،وطرزتها باحترافية واتقان وفن… وكان الحب آخر الأشياء…وكان الحب لغزا غامضا وأحجية تواريها بنين خلف صلابتها، ومزاجيتها،ولامبالاتها…لنقدها إبر توخز صدرها…تبكيها الآلام العظيمة ،أما تلك التافهة الصغيرة ،فتتركها على حسب مجرى الدمع ،متدفقا كان…أم نضبا…
تزدحم ليس ككل الأشياء في قلبي دفعة واحدة…فأيّ نجم أنت يتوق إليه موتي…أنا حين أموت فقط ،سيسرقني الضوء…لكن هذه المسافة هنا.. .بين القنديل والعين ،بينك وبيني ،جزء من سعادة مجبولة بالحزن ،بالأنس،وليس بالندم…
أنا لم أعد هذا الشكل..لم أعد هذا الشيء… كلنا لم نعد.. حتى أليف..حتى زوجها الذي تركت..تركته قابعا في زاوية من زوايا بيروت…خافتا..صامتا كقبر مظلم…والصمت طالما تكلم..والصمت طالما خلق كونا.. لكن صمته هو أجفل أليف ،قطعها ،أحرقها،كما يحرق اللاشيء العدم ..نحن لا يمكن ان نكون العدم…عادت أليف ومعها ولدان،لتنجو من العدم إلى حيث عاشت عدمها الأول…هنا في بيت بنين ،منزل الطفولة ،كانت الأمور تجري على افضل حال، بنين تلزم ماكينة الخياطة،أبي،يعود من الأرض، بعد أن فلحها، وفي يوم آخر،يرجع من بسطة البطيخ،على الرصيف المقابل،بثيابه المتعبة، وجبهته المتعرقة، وصمته الجميل الذي يقول الكثير…إن العدم الذي عاشته أليف،وربما سارة..بالتأكيد وأنا…لا علاقة له بأبي،ببنين، أو بأي شخص على وجه الأرض..هي تعاليم الرحلة ،ودَيْن الأرض،هذا العدم ثمن وجودنا ،ومعركتنا التي نخوضها مع ذواتنا لنعرف ما نود أن نعرف… اليوم عادت أليف وهي تحمل هويتها ،ليس على الورق فحسب ، تُعالج ذكريات الأمس باليوم،بأليف القوية التي تدرك ماذا تريد،وتعرف كيف تحققه… هذا الإله الصغير الذي يسكن فينا فقط ينتظرنا كي نراه…
تعيش بنين وحدها،والآن أليف تشاركها زاوية من البيت، ركنا خاصا بها يليق بالانتظار ،انتظارها الطويل… والصبر مرّ، والعناء…وتربية طفلين ،وهي لا تزال طفلة،أتساءل كيف ننضج نحن؟ كيف تستطيع حياتنا أن تسايرنا ،على براءتنا ، تعلمنا ،تصفعنا، ثم تربت على كتفنا ، كأنها تقول ( كان هذا لمصلحتك،عليك أن تشكرني لا أن تتذمر)
أنت لا تشبه الأشياء…أنت حفنة بابونج رائع ،ونهر مقدس ، وأنا من توضأ بمائه… فكيف أصلي بلا عينيك ؟ سأطبع فوق جبهتك قبلة صغيرة بحجم الكون ،سأرسم لك بريش الغيم طريقا تحبه..اعبره بهدوء..كيما يجرح الورد قدميك.
لقد كبرت أمي كثيرا ،لا أريد لها أن تموت كما مات الجميع قبلها ،كما سنموت نحن ،كما غادر أبي، هو كان مريضا، والآخرون انتهت حكاياتهم…لكن أمي لم تكمل الحكاية بعد…اريد أن أراها تبتسم ،تقبّل سارة ،ابنتها البكر، تُجلس أخي داني في حضنها، تقفز كمجنونة،تنام كطفلة، تصرخ فجأة وتقول: تعالوا نخرج سويا في نزهة… وفي مرة ثانية ،تشاركنا إعداد الطعام وتثني على طبخنا،ولهونا حولها،. نثير جنونها، تركض خلفنا،نتعثر فوق بعضنا كتلة، نرتمي من شدة الضحك ،لا يمكن أن تغادر قبل أن تكمل الحكاية..هي لن تقبل، لن يكتمل الوداع،لن يرتاح الحزن في مآقينا ولا الدمع…لن نشيع أول أوطاننا وآخرها إلى حضن الأرض… لا بد أن تكمل الحكاية لكي يليق بها الرحيل ،كي يليق بنا البكاء. أحبكِ أمي كثيرا يا آخر الأشياء التي سأكون حتما ،وأول قدر، خطه الكون على جبيني،ليكبر الحب فيّ كما الآن… هل تسمعني يا أنت يا أنا؟ يا من لا استطيع أن أقول له أحبك.
على بالي قصيدة ليست ككل القصائد ،أرقص فيها،أصرخ فيها،أتفتح فيها،أنعتق بها…أنا أرقص ها..ولا يراني إلاك،أنا أتفتح…والعبق يفوح منك إليّ…ها …أنا أنعتق..وأطير..كيمام أمام ناظري ،يُغير بغتة على سروة تحجب عني رؤية بيتنا… بيت أبي.. …بنين..أليف…تحجب عني مكاني ،مقعدي،وآدم….وبيني وبينك ألف ألف ميل…ولا سروة تحجبك عني ولا ريح..ولا بحار….أنا أرقص في فنجان قهوتي… لذيذا مثل لماك… وحيدا…كشوقي… تبارك شوقي…ها …هل أعجبتك قصيدتي ؟
والآن تقعد وندي ،ترى غريبها يحمل صنارته ،كأول مرة ،رأته ، وبيده اليمنى كيس ،فيه أسماك طازجة ،تتحرك،مازالت، يرتدي بلوزة زرقا وشورتا أبيض، يتهادى فوق الشاطئ، تغرق قدماه في طيات الرمال،تارة اليمنى،تارة اليسرى،والشمس تلفح شعره الأشقر، والهواء يلون قمحه بنسيج ذهبي…صوته…تسمعه…في صمته…وبعض الأغاني تنسل إلى مخيلتها،هذا وهي على شرفتها، وهو على شاطئ، بعد ألف ألف ميل…وأكثر…ويعود كل يوم تقريبا إلى البحر..وتزوره هي …غالبا…ترقبه خلسة…كأنها جني من عالم آخر. لكن الحقيقة ،أمر آخر،ليست وندي من عالم الجن،إنها ابنة بنين… تسكن في الضيعة وتحب الله كثيرا ،ببساطة، الله الذي يكمن فيها ،بقوة،ويمنحها تلك القدرة على السفر إلى حيث تشاء…لا حافلة،لا سيارة..ولا أية وسيلة بجمال تلك المركبة…التي اختبرتها وندي،لطالما اختبرتها ،لكن هذا الصياد الغريب ، كان قبطانا مميزا ،زودها بقدرة عظيمة لها هي تخترق الزمن والمسافة والعمر ، وتلمس خده،ويده، بيسر… عندما كانت تتفحص هاتفها صباحا كالعادة، بعدما تعود من سفرها الاعتيادي،غير العادي ،أعجبتها تلك المقالة: الجنوبية: درب المعرفة العليا في أوغاريت ،في حضارة أوغاريت، حيث وُلد الحرف، واشتعل نور الكلمة الأولى، لم تكن الحكمة مجرد طقوس، بل كانت طريق خلاص. أوغاريت لم تكن فقط مهداً للثقافة، بل كانت رحمًا للمعرفة الباطنية، التي تجلّت لاحقًا فيما سُمّي بالغنوصية، لكنها في جوهرها كانت “الجنوبية” — الاسم الأوغاريتي للطريق الإلهي.في الفكر الأوغاريتي، كما أوصى إيل — النور المطلق وأبُ الآلهة — كان التحرر بالمعرفة (الغنوص) هو الوسيلة الوحيدة لعبور الحجب المادية والعودة إلى النور الأصلي. لم يكن العالم المادي سوى سجن مؤقت للشرارة الإلهية التي نُفخت في الإنسان. وكانت دعوة إيل لسكان أوغاريت واضحة:> “انظروا في قلوبكم، لا في ذهبكم، واصعدوا من التراب إلى الضوء.”مفهوم التحرر عند الجنوبيين (أبناء أوغاريت الأصفياء):المعرفة الباطنية: ليست تعلمًا من كتاب أو وحي خارجي، بل كشف داخلي، حدسي، ينير الروح من الداخل ويوقظها من غفلة الجسد.الخلاص الفردي: لا يتوسّط فيه كاهن، ولا يحتاج إلى هيكل. وحده القلب الطاهر والعقل الساكن يعرف طريق العودة إلى الأصل.العالم المادي فخٌّ للروح: وهو من صنع القوى الأدنى، البعيدة عن نور إيل. وكل تعلق بالمادة يُثقل جناحي الروح.الصعود لا الهبوط: الجنوبيون لا ينظرون إلى الأرض، بل إلى الأعالي، إلى النجوم، إلى الأعماق التي تعبر الوجود، حيث يتجلّى وجه النور.أوغاريت كانت أول من حمل هذا السر، و”الجنوبية” هي اسمه الحقيقي، الموروث من تعاليم إيل لعناة والبعل وعشيرة. ومن هناك، تسرب النور إلى الديانات التي جاءت لاحقًا، باحثة عن النور ذاته، بأسماء مختلفة.وحدها أوغاريت نادت من البدء:> “الملكوت فيك، وليس خارجك.””صوتك هو مفتاح النور، وروحك هي الطريق.”
هل نحن اوغاريتات صغيرات أنجبتهن الأرض ثم سحرتهن السماء بسحر الألوهة! يا رب ما اعظمنا! لم لا نعي ذلك ؟
لا أدري لِم نسعى إلى الخطيئة بكامل وعينا كأنها لعنتنا الموروثة وخوفنا الأزلي…نحن حين نخاف الأشياء نقع فيها،نقع في هواها ،في غرامها…نغرق فيها ونحن نهرب منها…نكتشف أنها وجهنا الحقيقي الذي لطالما أخفيناه وحاولنا طمس أحجياته.
مع كل ذكر ،وصلاة، تصبح مثاليا أكثر وحاضرا ، لا كخطيئة( بصمتنا الأولى )…،بل كإله …كيوبيد…أنت صياد لقلبي…لا حيلة لي…لا لم يكن أي شيء مثاليا..أنا أدري. وهكذا لن أذكر اسمك …. أنا وندي…نعم … أستطيع أن أعترف، لكن عليك أن تبقى مخفيا،ايروس،كيوبيد….اختر لك اسما بينهما… عليك ان تبقى مخفيا هكذا كي لا تتحقق الخطيئة …قدر الجميع الذي نهرب منه…عليك أن تبقى في زجاجة فيها مصباح وجهك ، كوكب دريّ يوقد من شجرة مباركة ،زيتونة لا شرقية ولا غربية… يكاد قلبك يضيء ولو لم تمسسه يدي.
صرت تحل على قلبي كثلج يهطل على صيف قائظ…وحين يذوب…حين يتلاشى الثلج لا يختفي أثرك…بل يورق وردا معتقا بذكرى الانتظار… انتظارك محض خيال ،لا أمل له…وكذلك فراقك…كيف يعلق العطر هكذا لدهر كامل..سل العطارين عن سر وردك المنسي على الشرفات…كم شرفة شهدت…عطرا لك…وبكيت…على وسائد الهجران.
قدري العظيم أني التقيتك … على حبال المسافات تعارفنا…وعانق الصوت صوتك…والسؤال وحده مثلي ظل عالقا فوق شفاهنا…هل هذا حب أم ماذا ؟ أهو طهور كماء وجهينا…فيجيب البحر : بلى…هو طهور صانه الصمت.
الصمت يقتلني، وروايتي بكماء كاسمي، كاسمك… كالمسافة…كَيَدي الموثقة بالماضي الذي لا اعيش…انا الحاضر..ووجهك..وواقعي يشدني إلى جذع لا أبرحه…ولا اريد… هل هذه نرجسية أم وفاء؟ ابق صامتا…لا تخبرني…لست جاهزة لأعرف…. عندما تعود إلى البحر في المرة القادمة…في الأعوام المقبلة بعد الموت بساعة واحدة،سنلتقي،هناك تخبرني بكل شيء…ما يعزيني ان العمر ينتهي بسرعة ،والحرب لا تزال قائمة على قدم وساق… هل ستبتلعنا قريبا ،أم ستتركنا شهودا عليها…قد نلتقي هنا من يدري ؟ وقبل الموت بساعة واحدة.
عندما تهجرنا هذه المرة كنتَ معي، وآدم يرافقني، بنين وأليف وسارة اجتمعن معا في منزل أخي داني وزوجته، كانت المدن الشمالية بمحاذاة بحر طرابلس ،تفتح شبابيكها الخضراء ،والزرقاء لاستقبال النازحين من الجنوب النازف دما ودمارا… كانت وجهتي وآدم مختلفة، رافقنا ذويه ، إلى واد مطل على جبل عن يمينه ،وإلى جنوبه بيروت التي كانت جثة ،تتحمل آلاف القواذف…حرب ضروس ، علمتني غلاوة الوطن،كل شبر، كل قصعينة ، كل حبة تراب، كل طير…كل شيء..وكنت حاضرا على الدوام معنا… لست ندا لأحد…غيري…ندا لقلبي…ولوجودي كله…
وطني…لبنان…كم طال الغياب بيني وبينك ،كم تأخر قلمي عن البوح بما يعتريني نحوك…لطالما آمنت أن كل البلاد بلدي…والأرض أرض واحدة… ذات التضاريس…والعشب والندى…والفجر والمغيب…ذات الصيف…ذات الشتاء…والربيع والخريف يتوافدان من هنا وهناك لكل الأدنى…وأني إذ أحب لا يفرق قلبي بين بيروت ودمشق..بين لندن وباريس…بين طوكيو وموسكو… صحيح لم أزر أيا منها ما عدا جارتنا الشام ،الا أنني اعيش ما اشعر ،وأحس بما أؤمن…وفي هذه الحرب تحديدا ،عندما أجرمت إسرائيل ضربا وعدوانا ،وأغارت بطيرانها القوي الشرس بلا رحمة ،لتقتل البشر ،والحجر، وتحاول طردنا من قرانا ،من أرضنا….أينع ثدي الأرض مع صوت البكاء…كان قلبي يبكي حبا، والأرض تضمني وتضمني،حتى إذا ما فاض حنينها ، انسكب الماء من عيونها جرار لبن مصفى…
قال آدم : نرحل إلى العراق؟
أجبت: نبقى هنا،مع ولدينا..نموت هنا، وندفن أجسادنا هنا….من يترك أمه وحدها حين تهرم ليس بالابن البار ابدا…بيروت أمي ،والجنوب أبي،والأرض أمي،والبحر أبي، الشجرة أمي ،والحقل أبي… ولن أضجر هنا ..ولن أموت إلا هنا في بلدي.
قبل عشرين عاما ، كنت لا زلت أزور موطئ رأسي، كلما حل العصر،وخفت حرارة تموز، أقصد المنزل القديم،بل قربه، حيث تسكن عمة أبي، امرأة مسنة ،منزلها ملاصق لمنزلنا الأول القديم لا يفصل بينهما سوى مصطبة طويلة ،غير عريضة ، أشبه بممر، هذه المصطبة أو الممر كما أراه ،محفوف بريحان وحبق ،ونعناع فواح ، ربما هو مسبب عشقي الأول للعطور ،رائحة تدخل القلب ،تعشش في العقل والوجدان … كنت أتمشى من بيتنا الجديد الذي يقع على الطريق العمومي ، أعرج من طريق فرعي ،تحوطه أشجار سرو عملاقة، قديمة ،مزدانة بعصف كثير ،وعلى الطريق أتذكر كيف كنا نحن الأربعة، أنا،أليف،سارة وداني، في ليالي الميلاد نجمعها ،ونصنع منها طابات ملونة ، وبعد ثوان أكون قد وصلت لبيت العمة ، خمس مائة قدم واصل …تفوح من مسامها روائح الزيتون ،بزيته وورقه،كانت تصنع منه دهانا،ليبقى جسمها لينا متينا…حين أصل،أستمع لحكاياتها ،ويجتمع هناك ،كبار،وشيخ وصبايا وأطفال…ونستمع لبعضنا ،وحين يلوح المغيب،أعود … للبيت.
“….إذا جئت فامنح طرف عينيك غيرنا…لكي يحسبوا أن الهوى حيث تنظر….. إن كان ذنبي أن حبك سيدي…فكل ليالي العاشقين ذنوب….. أتوب إلى ربي…وإني لمرة يسامحني ربي إليك أتوب…”.
جلست كعادتها،وندي،وهذه المرة بقربها أليف وبنين ،على الشرفة، تتناهى إلى أسماعهن هن الثلاثة كلمات نزار قباني،بصوت اثنين فيروز ووديع،أهما نحن بصوت آخر، ولغة أخرى؟
أقف مباشرة خلف علامة التعجب ،بيننا مسافة صفر،وقلبي صفر من كل الأشياء…صفر يوازي كمالا ثقيلا يحط على كتفي ،لا كما تحط وندي على النافذة،يمامة وداع، سميتها باسمي ،كم تشبهني! مع فارق أنها لا تحمل على عاتقها صفرا ثقيلا…. أشعر بالغباء والضعف حين أتذكر أنني أسريت لأليف عنك،ببعض الأخبار،ليس ندما…بل يقينا أنك مثل كلمة مقدسة إذا نُطقت ، غاب جوهرها عن أذن المستمع،لا تقديسا لك وحدك…بل لنا كروح واحد ،اختبرت هذا التكامل الجميل… خلف ألف التعجب أقف،أتماهى مع رونقها ورشاقتها، مع انتصابها بشموخ رغم الأعاصير، وفي النقطة أسفلها يجلس قلبي ينتظر…ينتظر آدم كي يصحو…أو أنت كي تعود…غيرت رأيي، لست نادمة،ولا أشعر بالغباء..والخواء…لا ليس تبريرا لما بدر مني، ولا غرقا في تلك المثالية اللعينة الكاذبة…بل…لأنه لا بد وأن يحدث كل ما حدث…لا بد أن تُنطق بعض الكلمات وتُسر بعض الحوادث، كي لا نصاب بالجنون ،بالألم، بالندم،بالانكسار، كي لا نشعر أنا مهمشون جدا من الحياة ،لكي نخطئ، وهذا هو السر ،لا شيء مثالي على الإطلاق.
بنين
كل شيء يتغير ، وبسرعة، حتى أنا…بالأمس طردت سارة بلباقة ،أو بحيلة أنا وحدي أعرفها،كي لا تعيش معي، لا أحد يعرف ماذا يحصل لي، مم أعاني، أود البقاء وحدي ما تبقى من العمر، لا أصوات،لا ضجيج أفكار،ولا حتى ضجيج ملامح،يكفيني ما عانيت منذ طفولتي وحتى الآن… أصلا سارة لا تحبني، لم علي أن أعيش معها؟ لا تشعر بي، لا تحضنني،لا تراعي سني، تلبس على كيفها، تتحدث مع من تشاء ساعة تشاء،كما هي ،منذ ما كانت طفلة،ترقص،تقرأ، تنام ، لئيمة هذه البنت ،لا تشبهني بالمرة ، كم أتمنى أن يأخذها الله، لتُريح وتستريح…
بنين …أنت أم….تذكري…
وجودها يخنقني ، أنا نفسي لا أعرف السبب
صمت… انكسار…حزن….لوم عميق
تحمل بنين، ثوبا ،تُكمل تصليحه ، تدور عجلات الماكينة ،يهدر صوتها في الغرفة… أؤجل عناق أمي ليوم آخر…انا اعرف انها تحتاجه…ولكن ليس الآن…يجب ان تندم اولا…عليها أن تحترق بشعورها إذاك، عليها ان تبكي،أن تندم، فلتختر طريقة لها،كي تشفق قليلا،كي تحب، ولو لمثقال ذرة… أخرج بهدوء…إلى اللقاء امي…إلى اللقاء وندي…
يطويني سفر معلق على مشجب الخوف ،لماذا لا تعرف كيف تحب ،آه من ألم لا يُشفى! كم كان العناق منسيا وباردا…كبلاد لا تعرف الشمس حضنها الثلجي ،لكن ما يشفع له أنه ناصع كرؤيا… شاسع كمدى…ونحن صغار نضيع في المدى ولا نقرأ الرؤى… تلك المسافة بيننا وبينها هي ، صحراء ثلج… وألغاز…..وحنين مجروح ينزفه الزمن ورغم كل هذا نحبها،ليست بيدنا هذه الأشياء ،وهي تحبنا بطريقتها التي لا نعرفها…كلما حاولت تصور وجهي في قلبها ، رأيت وجهها هي باكيا ،شممت الصعتر يفوح من بقايا أثواب الطفولة… أثوابها …ممزقة…لم تخطها..لا ولم تختر الأزهار ،أزرارا لها…مفتحة…ياقاتها ملطخة بالتبغ…كان الزهر والتبغ يليق بأن يصير حقول ذكرى…وبساتين حنين… أعانقها كل يوم لأوقظ جمالا يستتر في عمق قلبها…بلا رحيقه…بلا تلك الصورة التي أرسمها لي في عينيها ،كيف سأستطيع العيش… تلك المشيمة تخنقنا ولكننا نغتذي عبرها بالحياة.
عاد جمال ،زوج أختي أليف إلى بيروت ،بعدما زارها هنا في بيتنا،بيت أهاي،من دون تغيير يذكر ،لم يلحظ أن أليف تنفصل عنه،تدريجيا،ودفعة واحدة بنفس الوقت ،لا يمكن للشخص العادي أن بفسر هذا الأمر،أو حتى أن يقف تماما عند كنه شخصيته ،لكن من يعرف تاريخ عائلته،طبيعة الطفولة التي عاشها بعيدا عن الأم ،والأب،منذ العاشرة ،وقبل أن يتكون رجلا ،سيدرك أن ما يعانيه هو مرض ( الخواء) لا أملك اسما علميا لهذا الاضطراب،ولا أسعى لمعرفته ،لا أنا ولا أليف،ولا أمي ولا حتى هو نفسه ،جل ما يعرفه أنه أنجب ولدين من أليف،وتركهم هم الثلاثة ،معلقين على حبال الصمت والفراغ ،بلا أي معنى لما يسمى حياة ، بعد أليف عنا، وصعوبة زيارتنا لها في بيروت لأسباب كثيرة أبرزها التردي السافر للوضع الاقتصادي في بلدنا ،والذي حرمني شخصيا من امتلاك وسيلة نقل تتيح لي أن أتنقل بحرية وأعيش الحياة بكامل أسبابها ،ولآدم أن يطير بي حيث نشاء على متن المناطق حتى القريبة من الضيعة ،البلدة حيث نقطن،كل ذلك جعلنا بعيدين عن معاناة أليف ووحدتها… حتى داني أخي،غرق في حياته هو تماما،ولم يزر أليف منذ زواجها لخمسة عشر سنة سوى مرات ثلاث !
أليف
أنا سر الصمت … أعيش مع تفاصيله الباردة ،خرجت من عالم الطفولة قسرا،لم أرغم على الخطوبة بعمر الرابعة عشر ،وأرغمت معا! أن تترك بهذا العمر لتقرر مصيرك بنفسك دون توجيه ،أن تشعر بأن كل كلمة ،كل نظرة تدفعك للخوض في غمار تجربة لست أهلا لها، وفي حال فكرت أن تتراجع ،تتهم رأسا بأنك ضعيف…لا لست ضعيفة… أريد أن أجرب….أخرج في نزهات…أتلقى الحب…أتحدى الخوف…لا …الخوف يخنقني..ماذا أفعل… جلسنا معا أنا وجمال…صمت…سهرة.. موسيقى…الأمر ليس بهذا السوء…وبعد شهرين سافر إلى الكويت لأجل العمل…شعرت بأنني سأتعلق به…سأجرب هذا الشعور..لم يتصل…لم يكلمني…تفاجأت أمي…تكلمت مع أبي الذي كان لا يزال بصحة جيدة ،ومن دون علمي…لم يأخذون رأيي ؟ فأنا طفلة…ولكن علي أن أجرب تحدي الارتباط ولو كنت طفلة! علي أن أحب وأقبّل وأعانق بينما لا يمكنني أن أستمع لحديث أبواي فيما يخص خطيبي… مضحك..مبكي… أتذكر الآن…ولم أعد أغرق في مزيج الخوف والهلع…لقد تخطيت كل هذه المشاعر، بمساعدة طبيبي أولا،ثم بنفسي،بكل تحدياتي مع فراغ جمال،مع خوائه….جمال الذي ترك منزل ذويه،عمل وحده، ولكنه لم يتغير،لم يكبر لكنه هرم….من الداخل والخارج، وعدت أنا تلك الطفلة التي تركتُها قبل زمن مضى،على سرير الأخوة، وبين ألعاب، وقلم كحل،وأحمر شفاه زهري، وملقط شعر ومشط أسود…. عدت طفلة جميلة الملامح،تثق بجمال مميز يسكن ملامحها وقلبها وروحها بعمق…يجعلها جذابة ومرغوبة جدا…
عاد جمال من الكويت خالي الوفاض، سُرق منه وأصدقاء العمل كل ما جنوه خلال سنوات غربة إلا لمم…عاد بأحلام مبتورة وحب ضائع لم أجده ، ومستقبل مفروض كصك بيع، ولا أمتلك المال الكافي لاشتريه..لأشتري حريتي منه،لأقول له بجرأة وثقة :” انا لا أطيق الحياة معك جمال..لا احبك…لستَ تعجبني بالمرة”.. من سيساندني يا ترى ؟ بنين التي تعتبر الطلاق جريمة ؟ ومنزلها ،لها وحدها ، لا تستطيع مهما حاولت أن تشاركه مع أحد ولو كانت فلذة كبدها! من سيساندني ؟ الطفلان اللذان أصبحا شابا وشابة بعمر الورد ،لكنه ورد ذابل ،فأنا عطشى،بئري فارغ… وجمال هو الخواء بكل معناه…عاد من الكويت ولم نكن قد تزوجنا ،وأنجبنا، بعد… كان بإمكاني تركه ببساطة ،لكن كل شيء تآمر علي حتى نفسي،وضعفي،تآمروا علي مع بنين أمي،لأبقى. أسأل نفسي أحيانا لو كنت أتحامل على بنين ،وألصق بها قلة حظي،قلة حيلتي،استكانتي،ضعفي،وقراراتي المدمرة…فيأتي الجواب بأنه كان لي وقتها من العمر أربعة عشر عاما فقط…إذا…هي المسؤولة عن مصيري كطفلة، فأرتاح من هذا الجواب، ليس هروبا، بل شعورا بالراحة اني لا أظلمها في كل ما أحس نحوها…في كل ما أعاني.
خرجت من ضيعتي عروسا بثوب أبيض بسيط، وتسريحة ناعمة، وبملامح ساكنة حزينة،كمن يتوقع مصيرا صعبا، لحق بسيارتنا الأهل، على وقع زمامير السيارات وقد كانت ولا زالت عادة دارجة في بلادنا لإعلان ما يجب أن يُعلن،فعقد الزواج من أسس شروطه الإشهار به ، بخلاف مشاعرنا التي من شروط بقائها أن تُستتر وتُتستتر تحت أعمق أعمق أرض… حين عاد جمال من الكويت بعد سنوات ثلاث مكللة بالفشل ،والضياع،نعم ،عاد بلا مال يكفي لأجل حياة كريمة تليق بي ، خرجنا مرة واحدة فقط مع أهلي ، أذكر وقتها أن وندي باغتتني:
- أليف أشعر أنك في ورطة، ولا أريد التدخل في الأمر بشكل مباشر فأنا أكبرك بسنتين،وسيفهم الجميع أنني أشجعك على ترك خطيبك،من باب الغيرة، لأنك خُطبت قبلي، لا ألومهم، هذا هو مقدار عقولهم..ولكن أنت ذكية..واعية … اخرجي من هذا المأزق… أنا لن أكرر نصحي لك،هذه المرة الاخيرة، فقلبي من جهة يعتصر على جمال،يبدو شابا طيبا،لكن هذا لا يكفي،هو ضعيف،تحتاجين لشخص يحميك، تحبينه أنت… يجعلك سعيدة… ومن جهة ثانية قلبي ينبؤني أنك لست بخير.. أطرقتُ حين سمعت كلام وندي،ولم أنبس ببنت شفة ،غرق الدمع في محجري، وتصرفت كالعادة…لم آخذ بنصيحة وندي للأسف، وكأن كلماتها شكلت دافعا أقوى لأستمر في طريقي ،وأغرز أشواك الدرب في كل كياني ،كأن قوة خفية أخبرتني ،أن هذه هي جلجلتي كي أتحرر…وهكذا حدث.
صارت بيروت موطئ رأسي الجديد،حتى مدن أنسى وجوه أهلي، فوندي وهي الأقرب إلي، بعدما تزوجت من آدم ، بعد سنة، من زواجي، لم تكن تمتلك وسيلة نقل، كانت تزورني بمفردها أولا، ثم مع طفليها، بواسطة وسيلة نقل عمومية ( الباص) ، وبعدما تردت الأوضاع الأمنية في لبنان،خفت الزيارات حتى انعدمت تماما، والباقون ظروفهم متشابهة تقريبا، حتى داني،ورغم أنه يمتلك سيارة فارهة، فانا لا ألومه، لسنا مجبرين على فعل الأخوة،فالحب يُعطى مجانا،ولا يقبل التسول. سنوات عشرين غيرت أليف، غيرتني نعم من ألفي إلى يائي، ارتدت معهد الفنون ،بعدما تركت الدراسة في سن الثالثة عشر، حزت على شهادة في التصميم ثم في الرسم، برتبة ممتاز ،وكانت هذه بداياتي على طريق الجلجلة، هناك حيث جلست وندي، وأضرمت الشرارة الأولى في جسدي وروحي،في كل كياني،حين وضعتني امام نفسي،عارية، بلا أكاذيب،شفافة كماء، عميقة كمحيط،شعرت وقتها أنني في القاع وأن جمال ،الذي يقبع مثلي في قاعه، سيكون درب الخلاص، فلا حبلا امتد من الأعلى لأمتشقه، كان مصيري مكتوبا ومن وقتها آمنت بالقدر ،بتلك الكارما التي يجب أن نعيشها كي نولد ونتحقق. في قاعة على شكل مربع، تقبع في الطابق الثالث من شقة قديمة ،لإحدى بنايات بيروت، كانت سارة قد خططت لكل شيء مع صديقنا المشترك ،الفنان بيارو، كان رساما وكاتبا مشهورا ،يسبق عصره بأشواط ، تعرفت إليه سارة عبر مواقع التواصل ،وتواصلا مطولا حول مواضع شتى تتعلق بالكتب التي كان يُصدرها، وكانت سارة تعشق الكتابة، والقراءة والتأليف، لها نية صادقة في خوض هذا المجال عاجلا أم آجلا، وبعد فترة ،علم بيارو ان لسارة أخت هي أنا،تهوى الرسم ،فتواصل معي عبر تطبيق الماسنجر ، وبتنا نتحدث يوميا ، وقد ساعدني على تحويل هوايتي لمهارة ،من خلال ملاحظاته القيمة وهو الرسام المخضرم ، إلى أن رسمت في غضون سنة من وقت تعارفنا ودراستي المهنية عشرين لوحة ،مكنتني بدعمه لافتتاح معرض باسمي… كنت داخل الشقة المربعة،بيارو على يميني مع صديقاته الفنانات ، وقد تعرفت عليهن كلهن بنفس تلك الفترة ،وعلى يساري أختي الجميلة سارة التي تنبض حياة وجرأة ، ومعها وندي أختي الحالمة التي تخفي في أعماقها الكثير ، ويظهر من هذا الكثير زبدا يلون بياض وجهها بخمرة زهرية،تعكس خجلا ، لا يمثلها ، وكأنه حالة طارئة…أو مظهرا سطحيا يخبئ في الداخل جرأة ساحقة. وقربها تقف أمي،بفخر لم أشهده منذ ولادتي،ولو أذكر يومي الأول على هذه الأرض، لأيقنت أنها لم تكن تشعر بتلك السعادة…كان نجاحي الأول هذا شهابا من فرح غير مجرى حياتي ،وتصوري لذاتي، التي بدأت أراها عظيمة ، نظرة الفخر في عيني أمي ،كانت العطر الذي ملأ وردي وأوردتي بحياة لم أعشها… وقتها أحسست نحو بيارو بعاطفة كبيرة اجتاحتني لم أستطع لجمها ، أو حتى الشعور بالخزي إزاءها ،لم يكن جمال حاضرا رغم أنا لسنا متخاصمين ،لم يمانع شيئا،لا دراستي ،أو المعرض،لم يلحظ حتى تواصلي شبه اليومي مع بيارو…كان عاديا ككل الأشياء ، كهذه الشقة ، كهذه المقاعد ،فقط الزينة هنا تفوقت عليه ،لأنها كانت تنبض بالحب والفرح …
انا كلاشيء…صار فجأة كل شيء. أنفاسي تتصاعد بهدوء..أتلمس السعادة هل أنا هي أليف ؟ تلك الفتاة المبعدة والمتعبة. ها أنا صرت خمر الدوالي وقد تعتقه الزمن. ها أنا أولد من الجمر من لهيب ألمي ووحدتي. أنا احبني. فمن مثلي يحبني ومن يرى جمال وجهي. ارى البدر يرتسم في مرآتي…وقد تبخرت أليف القديمة. كسمرة الليل البهي طالما وسموني…وقالوا حين تكبر…ستحلو….وقد حنت يا يومي…وصرت مكتملة…كبدر..انا أرقص في عتمة الليل البهي..وألمع بثوبي… كل العيون تترصدني…. إلاه…ومن هو ؟ ماذا يعني لي ؟ لا شيء… مظلوم..مسكين..لا يعرف كيف يحب…مثلي..بالأمس…اما اليوم فأنا احبني.
-أليف ،مبروك هذا النجاح ،كنت أميرة الحفل ،لم تزيني المعرض بلوحاتك فقط بل بحضورك القوي. -أشكرك بيارو ،لولا دعمك ما نجحت ،شكرا لكلماتك المشجعة واللطيفة. -أليف…أنا أشعر بالارتياح في حضورك ،أمن الممكن أن نكون علاقة أقوى؟. (بيارو،لا تنس أنني على اسم جمال… صداقتنا جميلة لا تفسدها أرجوك..) وبدل ان أكتب هذه الكلمات التزمت الصمت..لم أرسل اي شيء..ولم نتحدث مرة اخرى.
حاولت أن أحرك سواكن جمال،لأعوام، ولم أتوان عن المضي بنفسي وقدراتي قدما،استمريت بالرسم ، وطلبت مني لوحات كثيرة ، ودخلت في عالم التصميم من بابه الواسع، وكنت كلما نظرت إلى جمال،أشعر أنه يقع في عالم مواز لعالمي ،لا يشاركني نجاحي ، فرحي ولا حتى لحظات ضعفي وحزني…فقط ما فعله انه اتكل علي بشكل كبير وشبه كامل في تأمين حاجيات البيت ، وحتى صار يقصر في دفع مستحقات مدارس ولدينا..وكلما عاتبته ،أو حاولت التحدث معه في الموضوع كان يجيب: – لا عمل هذه الايام…لا املك المال…انظري إلى وندي كيف تتحمل أعباء أسرتها بسبب تدهور عمل زوجها برضى تام…كوني مثلها.
تتراءى لي وندي من بعيد..من بيروت إلى الضيعة..كيمامة مسافرة ، كم افرح حين تأتي لزيارتي،أشعر كأنه قطعة مني، تمدني بالفرح والتفاؤل..لكم حاولت أن أخبرها أن ما تفعله ،من تضحيات، يفوق طاقتها ،وأنها ستندم يوما ما…لكنها كانت تردد: – أليف، أنا أريد أن اشعر بحب أفتقده،أريد ان افكر عائلتي بحناني ،فالمال ،هو أرخص ما أملك فعل أبخل به عليهم ؟ لو استطاع آدم لألبسني الحرير والذهب…ربما….ولكن وضعه المادي صعب..لا أفكر أصلا بالموضوع…لا يزعجني العطاء..إنه يمنحني طاقة ومحبة وسعادة….
حين كنت أسمعها ،كنت أغبطها بشدة ،وأشعر بألم يعتصر كياني ،لكنني لا أستطيع المضي قدما مع جمال بطريقة وندي، هو ليس ظلا حتى، هو غياب تلو غياب ،وصمت تلو صمت، كأنه عقارب ساعة تتوالى بصوتها المزعج بلا رحمة…يقف في طريق قلبي، كعقرب الثواني بلا انقطاع…. كان إهماله لي موت صغير لا يقل ألما وغربة عن الموت والفناء بكل معانيه الصريحة…عدت إلى اليأس..والحزن حتى كان ذلك اليوم.
كان الطقس خريفا مشحونا بالحنين وكأنه تواطأ مع قلبي صباح هذا اليوم التشريني ،كنت أقود السيارة بقوة لا تضاهى وسلام يسكنني،أنظر إلى ابراهيم عن يميني ،ومن خلال المرآة المثبتة أمامي ،ألمح بحبور ليان، بزيها المدرسي ، تخطر ببالي افكار كثيرة ،ممزوجة بسعادة وحزن طفيف ،أتساءل بحرقة ( هل هما سعيدان ؟ هل أعوض لهما ما يبخل به والدهما من عاطفة واهتمام…من مال ونزهات ؟) وحين وصلت المدرسة ودعتهما بابتسامة ،وقد عهدت لنفسي أنهما على ما يرام ،طالما استطعت بما حصلته من مال،على مر سنوات من شراء هذه السيارة ،سأؤمن لهما ما يحتاجانه ،سأجبر جمال على القيام بواجباته على أكمل وجه…لن أكون مثل وندي…على الأقل آدم لا يبدو بخيلا كجمال… خرجت من كل أفكاري وسرحت في مقطع لفيروز كنت أسمعه عبر راديو السيارة على إيقاع نسيم تشرين ،وأضفت الوريقات الصفر على الطريق ، جاذبية مطلقة لصوت فيروز…وفكرت بوندي…كيف تتحمل أن لا تعيش هكذا لحظات..عادت إلى المدرسة من جديد بعد تخرجها من الجامعة مرغمة على خوض مجال التعليم ،لكي تتيح لولديها فرصة تعليم جيدة ، هي لا تستطيع مشاهدة الخريف عبر شرفتها ،لأنها تغادر غرفة نومها عند السادسة….وتعود وقد نال منها التعب…هل هي سعيدة ؟ وبينما الأسى يعتصرني لأجل وندي ،تتوقف السيارة ،تتضامن مع شعوري المباغت ومع وندي المتعبة… زفرت… _ لأهدأ، لن يجدي الغضب نفعا… _ آلو…جمال ..السيارة تعطلت فجأة، ممكن أن تأتي؟. _ أليف…حاولي أن تجدي حلا…
ماذا؟ برب السماء أجد حلا!؟ هل هذا إنسان أم…وبينما أنا أحاول أن أتماسك قدر الإمكان ،وقبل أن يتبادر لذهني أي حل، وبحركة صبيانية ،بوليسية، مغامراتية ،لا ادري كيف أصفها ، يصل عند باب سيارة موتوسيكل ضخم وهو دراجة نارية حديثة، بنصف لفة،نصف دائرة، يرتمي للأمام على وقع الفرامل،ثم يعتدل في جلسته، يرفع القبعة البلاستيكية الضخمة عن رأسه بحركة شبابية آسرة ،كبطل هبط من مكان ما . _ شو المشكلة ،خير انشالله خبرينا يا ست الكل. صعقة،حرارة،ثم أبترد، فيزهر فيّ ورد عطش….سمرته ،لهجته،شخصيته البارزة واحتواؤه، كل شيء تآمر علي ،حتى هذا الصباح الخريفي ، لينقلب تاريخي ،وتُعاد هويتي باسم آخر ،بروح مختلفة.
- أنا هالي .. شو اسمك يا حلوة ؟ ربما كانت هذه التعابير ستثير غضبي في موقف آخر،مع شخص آخر ،لكن هالي شهب حقيقي، أمنية من نور ونار.
- أليف…
- لم أنت وحدك ،لا أحد هنا لمساعدتك ؟ وبسرعة خاطر،استلم زمام المبادرة، أشار إلي لمكان قريب بأن أستريح هناك ريثما يتم تصليح العطل…دخلت إلى حيث أشار،فإذا به كافيه،مقهى ضخم ، أقل ما يقال فيه أنه رائع،على الطراز القديم،يخلط بين الذوقين الشرقي والروماني في دمج بسيط وساحر كأنه يُخبر زائره عن تلك حقبة تزاوجت فيها ثقافات عدة ،بغير إذن أو شاهد…
أليس الرباط الروحي تزاوجا بطريقة ما…تزاوج لا يحتاج معه لإذن أو شاهد ؟
خفت من أن تتجاوز الأمور حدها ، فقلبي راح يقفز أشواطا لم يعتدها ،عاد هالي بعد حوالي خمسة عشر دقيقة ،وجدني أحتسي فنجان نسكافيه،قدمته لي موظفة حسناء تعمل في المقهى ، ما إن دخل،حتى توجهت الأنظار إليه،العاملون،العاملات، بطريقة تنم عن سؤال صامت ( أكل شيء على ذوقك ؟) ويومئ كمن سمع ،وأجاب بالرضى ،ثم أخبرني بأنه صاحب المقهى بالإضافة إلى سلسلة من المقاهي التابعة له في مدن مختلفة.
- ذوقك عالي أستاذ هالي،الديكور مميز جدا.
- هالي…بلا أستاذ..نعم أليف،أخبريني الآن هل أنت متزوجة ؟. صعقني السؤال لأسباب متداخلة دارت في رأسي لأقل من ثانية بنفس الوقت ( هل بدوت كبيرة ؟ لم يسأل عن هكذا موضوع ؟ ماذا سيفكر لو نقلت له كلام زوجي جمال…جِدي حلا…)
- بلى…متزوجة…قلتها برزانة لم تستطع إخفاء امتعاضي وحزني الكبيرين. أومأ وكأنه فهم كل شيء..أو هكذا شعرت..ولم أبالي بم سيفكر..كان همي…ما التالي…
- هل تعملين أليف ؟ أم ربة منزل ؟. وهنا ارتحت كثيرا لأنه أوجد بابا أنتظره،كي أطيل الحديث معه أكثر ،ولا أدري لماذا….لم أشعر بمثل ذلك من قبل… حاولت إخفاء مشاعري ونجحت ،بقيت متماسكة وعلى سجيتي بنفس الوقت ،وأخبرته بوقت قليل عن جل رحلتي التعليمية ،المعرض، فن الهندسة..وحتى عن حاجتي الماسة لعمل….بمرح من يستعرض قواه العظيمة أمام من يحب…ومن يجذبه كي يبقيا على وئام…
- يحب؟ بهذه السرعة ،شعرت بيدي أطرد هذا الخاطر الغريب المباغت من رأسي ،ولكن روحي تثبته ،وطرقات قلبي تعطيه الحيز والحياة.
- عظيم أليف،لديك عمل الآن ،لدي مقهى جديد ،في كورنيش المزرعة ،بدأت بتجهيزه ،لك التصميم وعلينا التنفيذ،السيارة بانتظارك في الخارج ،نلتقي قريبا.
ثم أخذ رقم هاتفي ،بابتسامة الواثق.
.-طيب…. كم كلفتك السيارة ؟. – منتحاسب…ما تحملي هم…
علقت ابتسامته في وردي الذي تفتح قبيل ساعة….عدت للبيت محملة بطاقة لا توصف ،أمل،حب وإلهام ومستقبل واعد….وعمل براتب كما وعدني…هذا كثير…أما جمال الذي عاد من عمله بعد ساعتين شعرت بهما لحظتين، برفقة ابراهيم وألين ، وقد مر على مدرستهما كما العادة كل يوم عند الثانية ظهرا…شعروا بفرحتي فابتهجوا..أو هكذا شعرت…لم يسألني جمال ولا حتى سؤالا واحدا عن ما جرى…أو كيف عدت…ولأول مرة ابتهجت لهذا الإهمال المعتاد ، شعرت براحة وحرية لا توصف….
هل هي حرية حقيقية أن تحلق وتحلق وتشعر بجناحيك يجتازان المدى الأزرق لمجرد أنك سعيد من الداخل ؟؟ وكم هي مدة صلاحية هذه الحرية ،أسوف تتبخر حين تلمح بطرف من عينيك اللتين أغمضتهما بقوة قضبان سجنك ؟ ولو أفقت..وفتحتهما على ملأيهما… وحطمت القضبان….هل ستبقى فرحا…حرا…حين تترك في سجنك إذاك عصفورين آخرين…لا يملكان أجنحة…ومصيرهما يقف عند تركك إياهما عند باب القفص المشرع بلا قضبان …أو المكوث معهما حتى يجربا معنى التحليق….إلى أي حد سيكون المدى أزرق…رحبا…والأجنحة قوية….ما معنى حرية…أمام هذا الوابل من الأسئلة ؟؟؟
ركنت الأسئلة كلها في مرآب الحزن والفقد ،في مستودع الغربة عن الضيعة… والوجع من رزء الإهمال والترك…من صدى الصمت القاتل…والمسؤوليات الثقيلة…وركبت أول دراجة هوائية أطلقها عنان خيالي حين سمعت رنين هاتفي وقرأت اسم هالي،وقد عينت لاسمه موسيقى خاصة..أبهذه السرعة ؟ رتبنا موعد عمل وبعد لحظات قرع الباب..إنه العاشر من تشرين الثاني…قرأت تاريخ ميلادي مكتوبا بخط أحمر مع عبارة ( العمر كله) على بطاقة بيضاء ،ذات إطار ذهبي مثبتة بعصا خشبية وسط باقة من الورد بلونين الأحمر والأبيض…كانت السلة عملاقة ولا أحد عند الباب…أمسكت البطاقة التي وقعت من الخلف ( عالي) كما توقعت.. ثم سألت…أبهذه السرعة ؟؟؟
وندي
لا لم يكن مثاليا ما حدث مع أختي أليف،التي كانت تحدثني بكل تفصيل صغير استجد معها ،سواء بالنسبة لجمال أو هالي…حذرتها بطريقة لينة أن الموضوع خطر ،رغم تفهمي لمشاعرها ووضعها الصعب مع زوج غائب فكريا وعاطفيا ، لكني خفت عليها من الآتي…لكن أليف كانت ترتب لأمر آخر…فهي منذ المعرض الأول ،لم تعد أليف الصغيرة ،لكنها ما زالت للّحظة أليف المحترمة التي لا تسمح لشيء أن يجرفها إلى مكان بعيد عنها ،،يغربّها عن ذاتها الحقيقية….ثم طارت يمامة كانت تختبئ في سروة طويلة مقابل شرفتي حيث كنت أحتسي قهوتي الصباحية المعتادة.
- كيف حالك اليوم وندي؟
- بخير..وأنت ؟. كان حديثي معك ينحصر بين هاتين الجملتين ،وما بعدهما وبينهما ، أخبار من هنا وهناك لا تمت لنا بصلة…ها أنا أتعلم معك، كيف أقرأ ذاتي من جديد ،ولا أدري لو كان آدم من يفصلك عني لليوم أم أمر آخر…أجهله…أتجاهله.. لمّحت لي به ،ادعيته….أشعر أنك تخطط لشيء ما ،أخاف ان يكون ابتعادك عني… ولشدة ولهي بتلك الصداقة المفترضة ، صرحت لك برغبتي في أن نبقى صديقين ،طالما أن المسافة موجودة والاحترام سيد الموقف..ما المانع ؟ لا شيء مثالي على الإطلاق ولا ينبغي ان يكون.
- أليف، يجب أن يبقى هذا سرا لا يُباح به، فهذا البوح يكلفك الكثير ولن يفهمك أحد.
لم أشعر بثقل على الإطلاق،لا ذنب ولا ندم، وأنا التي لا تسمح لذَكر أن يتعدى مساحتها التي يقف آدم عند حدودها حارسا منيعا، وقد سلمته مفاتحي كلها ، ونذرت مدني وفاء لا يُجترح أو يُجتاز.
- وندي، نحن صديقان، ولهذه الصداقة حدودها المرعية،هي بعين الله ورضاه…ما هو الرضى برأيك ، أو ما هي السعادة بمفهومك.
- كأنك أجبت.
- ماذا تقصدين ؟ وكأني به ألمح من خلف الشاشة ،شاشة الهاتف ، على بعد أميال وأميال… ابتسامة رقيقة لصديق من عالم آخر….
- أقصد أن السعادة هي الرضى.
- أأنتِ راضية وندي ؟
- أقول الحمدلله دوما…لا شيء مثالي ،لذا الرضى لا ينبع من الاكتمال بل بمقدار ما أتقبله من نقص.
- وبالنتيجة، سعيدة أنت ؟
- نعم…بمقدار ما أتقبل… سعيدة..والآن سعيدة…
- تأخر الوقت عزيزتي..عمتِ مساءً.
هذا الاحترام ،تلك القداسة التي تعتريك…تأخر الوقت فعلا…من يمحو الحدود هنا ويفتح البوابة المغلقة انا ؟ أم الوقت والظرف ؟ أوجودك بحد ذاته… أم هو النقص الذي يعتريني ؟ أم كما أشعر… نجم هبط من العلياء ليضيء لي ظلاما تكدس في تجلياتي…كان عليّ أن أحمل القدح أمام الملأ كالرومي تماما…وأسكر في لمى هذا الوصال….
- وندي …لا خلافات بينك وبين آدم…كيف تتكلمين هكذا؟…كيف تفكرين…بم تفكرين
- ربما يكون خلافنا يحدوه اللقاء الأول ، نغزة القلب، الألم، الاغتراب، الضياع… لكن فعلا لا أنوي أن أحطم ما بناه من آمال في وجودي معه…لا أنوي أن أذبح طيرين بريئين يريدان ان يعيشا بفرح…فهل يكون ضياعي ،وحزني واغترابي هو بسبب هذا النجم الذي هبط في ظلامي ؟ لا…
- أنا أفهمكِ…لكن ماذا تسمين ما تشعرين به؟ حبا ؟
- أنا لا أريد له أي مسمى…ولا يمكن أن يُحصر شعوري هذا بكلمة واحدة أو بحرفين…ولا أريد أن أشوه هذا الدفق بمسمى يودي به لخانة واضحة ( الخيانة) فمن يخن أقرب الناس إليه لا يعول عليه ،لا قلبا ولا عقلا حتى…ولا يمكن ان يكون صديقا مخلصا….لأي كان…
- أنتِ تحاولين تحوير الحقيقة…اعترفي بذلك…لتطردي الشعور بالذنب او بالمسؤولية…
- لقد تغيرت منذ عامين بما يكفي لأستغني عن أي تبرير… لست بحاجة لصك براءة…والأيام خير دليل…
وهكذا حلقت اليمامة ولم يعجبها جوابي ،وبقيت معلقة على نافذتي ،بانتظار آدم، ليستقيظ ويحتسي معي قهوة الصباح ، وبعد دقائق قليلة من الانتظار الفارغ، أقوم بتمارين رياضية خفيفة ، متبعة برنامجا يوميا يُعرض على اليوتيوب ، أغتسل، أضع القهوة على الموقد…وأنتقل إلى الشرفة بملابس خفيفة بيضاء ، أتأمل السماء تارة وشجرة السرو تارة أخرى…وألمح اليمامة التي كلمتني منذ دقائق وقد حطت على غصن ،وهي ترقبني ، تصغي لهمسات قلبي بتمعن ،تقرأ اختلاجات فكري…ثم تبسم وتحلق بعيدا…لقد صدقتني أخيرا.
كم من صديق عظيم يزور عالمنا كالأنبياء، يحمل الرسالة وشوك الطريق،وبين كل جرح وجرح ، يبلسم وجعك بكلمات دافئة،ومواقف نبيلة… هو معلم أبدي يأتي مرة ولا يرجع أبدا…ولا حتى يغادرك…يبقى في رحيله معلقا ليس في الذاكرة ،بل في الوعي…في الحاضر… كشفاء وشقاء…شفاء مستمر..وشقاء الشوق المبتور …تماما مثل رحيق الورد…فهل تملك أن تعتّق شذاهُ وهو لايزال في بتلاته؟؟
- آدم عزيزي،سأزور أليف ليومين ثلاثة…على أكثر تقدير…لا أريد أن أتركها وحدها في هكذا ظرف.
- ولكن…وندي..أنت تعرفين..
- نعم..نعم…أعرف أن ما يحدث غريب..لكن ثق بي، ثق بأليف…هي لن تقدم على شيء يجلب لها أو لنا العار أو حتى الندم.
- طيب…لا تتأخري…أحبك كثيرا…
صمت….
ليتك تعلم آدم ما أكنه لك في داخلي من أمومة وتقدير وتبجيل وعطف ، رفيق أيام لم اخترها ، بل هي من اختارني مع ضعفي ،مع خوفي ، أمسكوا بأيديهم معا ، كصف واحد، الانتظار،الخوف،الترقب، وظهورك أنت…حين كنت عائدة أدراجي من بقايا خيبتي ،من شبه حب يتحطم، وكان الدمع ملء محجريّ، انتصبتم أمامي ، كصف مرصوص،لا بل كخلاص ما…. بقلبي الثاقب رأيتك وجها لا يشبهني ،نقيضا ينقذني ،أحد الأضداد…وحين اقتربت ، ساءتني أشياء كثيرة..كثيرة..ولا تزال للآن تعتصرني كلما هبت فيّ…لكن فيك شيء أحبه ، ألا يكفي أنك انتشلتني حينها من بئر الخوف والفشل الذي كنت أعيشه..ولا أطلع عليه مخلوقا….لكنك لم تستطع أن تنتشل الحزن من داخلي…لم تحرك في أنوثتي إلا الأمومة…لذا أخاطبك أنت الآن من قلبي افهم صمتي….
وكأني بآدم قد فهم هذا الحديث المطول…فدمعت عيناه بدمعتين لم تسقطا…لقد وصله حناني ،ووفائي، وكل تقديري لوجوده معي في حياتي…لكن حزنا آخر اعتراه..ليس بجديد ، لقد اعتراه منذ عام…حين بدأت وندي تصرح لنفسها بم تشعر.. حين اعترفت لذاتها بذاتها..حين تصالحتا…وسقط القناع وبان الحزن بهيا كشمس غروب سقطت في بحر من الليل…
آنس بك آدم صديقا… وها نحن قد نجحنا في عبور هذا الطريق ، ولما خلعنا عنا أثواب الادعاء وبان الشفق ، تنازلنا عن الأدوار ، وبتنا صديقين…مجرد صديقين. مع فوارق ثقافية ، مع توافق في وجهات النظر واختلاف كبير في الأسلوب ، مع اندفاعي التام، وأخدك للحياة بأقل من بساطتها…وربما هذا بالذات ما أنقذني في ما مضى…وانتشلني من ضياعي في أناي.
لكنني عدت الآن من سفري ، وندي الحقيقية..لذا أجد صعوبة في متابعة ما بدأته واخترته… ولكن لا بد من ذلك…انا لم اعتد أن أترك ما بدأته.. أو أن أتخلى عن الصديق…في طريقي…
وصلت برفقة أليف إلى بيروت عند الثامنة صباحا،كنت استمتع بمنظر البحر من صيدا وحتى أفول آخر مشهد للشاطئ...كم نرغب بما لا نمتلكه! كم من الشغف يعترينا لكل ما هو مفقود في حياتنا..نحن والمسافة عشيقان أبديان نمارس طقوس الحب والوله والانتظار وها هو الشاطئ يغريني والبحر والملح وماؤه..أما الذين يعيشون هنا على امتداده ، أو أولئك الذين يقصدونه ساعة يشاؤون فلا علاقة غرام تربطهم به! هذا حالي أشكر الله، وقدري ،وآدم على كل ما أفتقده ، لأنه منحني هذا الحب.
بدأنا أنا وأليف بحمل الشنط ، بعدما ركنت أليف سيارتها أسفل البناية في مساحة مخصصة ، عبرنا جنينة مزروعة خسا وخضروات أخرى، كان يقف في آخرها رجل سبعيني ،بقميصه الرمادي ،وقد قصعه عند المرفقين ،يعتمر قبعة شمس سبور ،ويسقي…لم أر وجهه، لكن تذكرت أبي،كان ليقف معي الآن ،معنا أنا وأليف ، في بيتنا في الضيعة ، يحكي لنا كيف قضى نهاره ،ربما يربت على رأس أليف ويقول لها ( لا تذهبي لأي مكان حبيبتي ،ابقي هنا معنا ، لنحل المسألة…) نظرت لأليف لأجدها تقف في مدخل البوابة عند الدرجة الأولى تضحك كأنها تقول لي ( ماذا تنتظرين ؟) .. شيعتها بابتسامة تحمل ألف سؤال… صعدنا الدرج ،درجة ،درجة، مدججين بالمشاعر لا نأبه بالحر ،حر هذا الصيف الغريب…وكأن أليف تؤجل إجاباتها كلها لي لسهرات سنقضيها على شرفة تنتظرنا…شرفة قمرية.
ها هو الليل أطل وأنا وحدي…على الشرفة والقمر رفيقي…أستجمع شظايا كلمات…تعششت في كياني كتلك اليمامات التي تعبر الأشجار المنتصبة أمامي بلا ريبة بلا وجل…كأن هذا الليل ليس للرقاد حتى بالنسبة لها…تبدع في بث الحنين فيعتريني الدمع بلا أدنى حزن ،شجرة نخيل تحرس أشجار ليمون وبرتقال ،وهناك أكيدينيا ،فقدت ثمارها الصفراء ،ولم تفقد ورقاتها الخضراء…آه ما أروعها.
- وندي.. مرحبا..أريد الاطمئنان عنكِ…وعندي سؤال.
- انا بخير…صمت…
- كيف أعالج ألم المعدة ؟ لديك وصفة ؟
- بالتأكيد…أعشاب كثيرة تساعد في تخفيف الألم ولو كان عصبي المنشأ أو بفعل تسمم غذائي.
- هو كذلك…تسمم غذائي بسيط…
طال الحديث عن اليانسون ،والبابونج،وعن القصعين… وضحك القمر مني ، وجاءت أليف،لمحتني في وحدتي ،أجالس القمر ،جلست هي الأخرى بصمت قبالتي على كرسي لها، تتهيأ ، لتبثني ما حصل معها في غضون شهرين… شهرين فقط…
- نعم وندي،هما شهران،بعمر أعوام، ولدت،وأحببت وتزوجت بعد طلاقي من جمال…وها أنا ذا أعيش في هذه الشقة التي ترينها،واستأجرها هالي لنا..
- أليف…تمزحين..وأمك..وداني..كيف ذلك ..؟ جمال…انتظري…كيف وافق بهذه السرعة ؟
- هنا تكمن معجزة أنني لا زلت أعيش مع جمال كل هذه المدة..هو عبثي، غامض ، بريء،ساذج، غائب، مهمل…ولا أدري كيف أجمع لك كل هذه الصفات بكلمة واحدة أو عبارة ذات معنى..هذا ما حصل..
- من هو هالي أصلا؟
وجلسنا طرفا من الليل ،أسرت لي فيه أليف بحادث تعطل السيارة ،وما حصل بعدها…
- وندي..أحبني هالي منذ هذا اللقاء،ولم يتجرأ على اتخاذ أية خطوة،كوني امرأة متزوجة، لكنه لم يكن يعلم أنني كنت أرتب مع جمال إجراءات الطلاق بعد انقطاع طويل بيننا، فقد جسلت مع ابراهيم وألين، وصارا يعرفان كل شيء…أتدرين ؟
- نعم؟
- لم يستغربا بالمرة ،ولم يتضايقا ،بل على العكس ، كأنهما كانا ينتظران هذه اللحظة منذ أمد.
- الباب يقرع..تنتظرين احدا…
- آه…ابراهيم وألين..نسيت أن أخبرك..سأفتح لهما وأعود…
- نعم وندي…أوصلهما جمال إلى هنا ..تخيلي…لم يسأل عن الشقة..ولا امك..ولا داني..لا أحد إطلاقا..لولا هالي لكنت الآن تحت رحمة بنين وتساؤلاتها الضاغطة..كنت لأرجع لجمال تحت أي ظرف…كما فعلت ألف ألف مرة.
لقد علم هالي كما أخبرتني أليف، بأنها ستنفصل عن زوجها خلال ايام..وهو كان متيما بها منذ اللحظة الأولى ،كان حديثا طويلا جدا عرف من خلاله كل شيء عن اليف التي تُركت وحيدة..بلا سلاح، مع ولدين لا اريد ان تتخلى عنهما ، تريد لهما أن يترعرعا في كنفها وحدها بعيدا عما كانا يختبرانه في البيت الأول من إقصاء وإهمال وجفاء…وحيدة ،بدون أم تقول لها هذا بيتك عودي إليه ، بدون سند..أخ…يخبؤها تحت جناحه من قسوة الأيام التي أجبرتها أن تكبر بالقوة ومنذ الرابعة عشر ، بلا طفولة…
- وندي..حين علم هالي بكل ظروفي،تخيلي، غاب لدفيقتين لا أكثر، وعاد ليخبرني ان هناك شقة لي وحدي تنتظرني ساعة أشاء…وحين عدت ذاك الصباح للبيت، بعد ساعة فقط ،وصلتني باقة ورد…استحييت…ماذا افعل…إنه يمتلك جرأة غير طبيعية وقوة خارقة…كساحر يجترح المعجزات ، في داخله ثقة جعلته متيقنا أنني سأكون له ..وبطبيعة الحال لم يسأل جمال عن الورد…الذي لم يحضره لي ولا مرة ، والآن ونحن متخاصمان لم يلتفت للأمر…
- ومتى انتقلت إلى هنا إذا؟
- كان يوما لا يصدق ، تركت البيت ، يرافقني ابراهيم وألين ، وبعض حاجياتي ، مباشرة إلى هنا، ظل هالي حولي كالحارس المراقب ، وانتظر شهرين ،ثم تزوجنا…
- ولكن…لم تخبري احدا .
- وهل سأل أحدهم عني ؟ لقد تُركت كورقة في مهب الريح…لا أحد يستحق أي اهتمام..وماذا سأنتظر..موافقتهم؟؟؟ لا..لقد بلغت الأربعين…هذا يكفي..خسرت عمرا كاملا وقد حان الوقت لأربح جزءا من العمر المتبقي ولو كان شهرا واحدا فأنا لا أطمع بالكثير…
سيأتي هالي ،حين يذهب ابراهيم وألين لرؤية والدهما ،يومان أسبوعيا ،يعني أنا في الحقيقة أعيش معهما في هذه الشقة الوادعة ، بفضل هالي ،الذي لا يطلب الكثير.. يكفيه أن أكون له ومعه فقط.
مهما ظننا أن الحياة ظالمة…تدور الأيام ، وتفاجأنا بأننا حين تغيرنا من الداخل ، حملت إلينا هداياها كمكافأة على كل سنوات القلق والحزن والريبة…تلك السنوات التي كانت مرآة لنا في الحقيقة ،وما الحياة الجميلة التي نعيشها اليوم الا انعكاسا لذواتنا التي صارت رائعة!
كانت أيام ثلاث بمقدار عام لمست فيها قوة لأليف لم أرها من قبل، تحدّ قويّ وحبّ أقوى ،غد مجهول ،والأهم.. حياة الحاضر بكل معناه…بأدق ذبذباته…شعرت أنني أمام أليف أخرى ،وكأن الطفولة عادت بنسيماتها لوهلة لتذكرني بتلك الشعلة الوقادة التي تحملها أليف بداخلها…وهي ما تفتح اليوم جرأة لا تنفصل عن براءة ويقين…هي لم تظلم جمال… تحملت ما لا يُحتمل من جلد ليس بالسوط وليته كان كذلك…فسياط الإهمال والتخلي العاطفي والفكري يودي بالإنسان حد الجنون…وما التوحد وحده كمرض واضطراب عصبي يرتبط بعوامل جينية دماغية بأكثر خطرا وصعوبة من (الانسحاب الاجتماعي المكاسب) أي صعوبة التواصل والانطواء على الذات بشكل يُمرض الشخص المنطوي وكل من حوله…. لقد تحول ابراهيم إلى شاب منعزل تماما ،قلما يتكلم أو يبدي ردة فعل على أي شيء…وبدأ انسحابه يزداد يوما بعد يوم بشكل واضح جدا…
قبل أعوام…
وصلتُ إلى العنوان ، الدكتور ( موريس الأشقر) ، طبيب نفسي معروف في بيروت ،اتبعت ال(location) الذي حملته على هاتفي حديثا وبالفعل وصلت من بيتي في بيروت إلى المبنى في أقل من ربع الساعة..
مبنى أنيق ،ذو طراز قديم من الحجر الصخري المقصّب ، تتدلى من كل شرفة من شرفاته الثلاث نبتات ،وورود بنفسجية تطرزها بعناية ،شعرت بدفق من الاكسجين يدخل بسلاسة لدماغي وكامل جسمي ، نظرت إلى هاتفي، دخلت لمحادثة الواتساب بيني وبين ( بيارو) ،الطابق الأوّل… أوف… تنهدت ، لن أصعد أدراجا! كان الباب الخشبي مشرعا ،لا أحد في صالة الانتظار ،على اليمين تجلس فتاة ،خلف نظاراتين، تطالع أوراقا ، حالما جلست على المقعد الجلدي الأسود قبالتها ،رفعت رأسها ،وبابتسامة بيضاء مثل ملامحها ،حيّتني: أليف أحمد..صحيح؟
- نعم ،صحيح.
- أهلا وسهلا بك ،دكتور موريس ينتظرك.
لولا أن بيارو أخبرني،أنه تواصل مع الطبيب وأوصاه بي ،لارتفع ضغطي من تخيل المبلغ الذي من المحتمل ،بل من المؤكد أني سأنقده، فهذا الطبيب مشهور جدا، وبالفعل كما أخبرني بيارو صديقه المقرب،لا يعطي مواعيد استشارات بشكل فوضوي كعادة أطباء هذا الزمن ،لا أحد في صالة الانتظار ،وهو بانتظاري انا فقط.
لم يكن هذا هو تصوري لشكله ،رجل خمسيني ،ملامحه بسيطة تدل على تواضع ولباقة، وقف باحترام حين دخلت ودعاني للجلوس قبالة طاولة مكتبه الخاص ،أسئلة روتينية مريحة لملء الإستمارة اللازمة باسمي ،ختمها بجملة ( الدكتور موريس غالي علينا ،أهلا وسهلا بك أليف)..
استمرت الجلسة ساعة ،أحسست بعدها أنني غيمة من أثير ،امتلأ الورق بالكثير بينما فرغت تماما من كل ما علق ب الذاكرة من ماض وطفولة وتفاصيل مؤرقة كنت ظننتني قد نسيتها او نجحت على الأقل في تجاهلها ،ها هي تعود ،ولكن سرعان ما تتلاشى من جديد كدخان نارجيلة تتخمر بالعسل والجمر…تكررت الجلسة ،حتى انقلب حالي من أليف مضطربة شديدة الخوف من أشياء كثيرة لامبررة إلى أليف الحقيقية ،تلك التي كان لها من العمر أربعة عشر عاما ولم يسمحوا لها أن تكبر بهدوء أن يختمر عسلها ،وعنبها،وتفاحها لوقت كاف…حتى قالب الكيك الذي انتظره الآن لكي ينضج يحتاج وقتا…
- أليف، هذه التجارب الصعبة هي التي جعلتك أليف بنت اليوم،أحبيها،تقبليها كما هي.
- شكرا دكتور ،لا أعرف كيف أصف لك مدى امتناني ،ومقدار راحتي.
- لا تكوني ممتنة إلا لشخص واحد هو انتِ… وهذه ليست نرجسية كما أخبرتك ،هذا حقك الطبيعي ،وهذه قيمتك التي تعرفينها جيدا.
- صحيح.
وهكذا انتهت جلساتي ،وها أنا أعود اليوم بعد ثلاث سنوات ،مع ابني البكر ابراهيم ،إلى المكان نفسه ،لنرى ماذا يمكن أن نفعل ،وكيف معالج ما أفسده كل شيء..كل شيء…
- عزيزتي أليف،كما قلت من البداية،يجب ان يأتي جمال،أولا، وبعدها كل شيء سيصير أسهل،سنوفر الوقت والجهد.
- تعلم أن هذا مستحيل.
- ابراهيم ،شاب رائع، فقط اشغليه بهواية، تحدثي معه أكثر ،وسعي الدائرة من حوله بأية طريقة ،فهو فاقد للمثال ،الأب، جدي انت الظرف الملائم له ،أنا اثق بك.
إن السنة المنصرمة التي عشتها مع هالي، ضاعفت من وحدة ابراهيم ،ليس لأنه ابتعد ،أبدا…فهو كان يعيش معي وكذلك ألين ،ولا يتركني إلا في عطلة نهاية الاسبوع ،حينها يأتي زوجي هالي، فلا يلتقيان…لكن بعدي عنه ،خلال هذين اليومين اسبوعيا فعل فعلته وفاقم مشكلة هي اصلا تولدت لديه..فجمال لم يكن سوى ظلا لماض لم يستطع الخروج منه او التحليق ولو لمرة….الين ابنتي قوية، لا تكسرها الظروف ،ترسم،تطرز،تبتعد بخيالها عن كل ما يؤذيها ،وإلى ذلك هي متعلقة بأبيها ،لا ترى فيه أي عيب! عكس ابراهيم.
جاء هالي مساء السبت كالمعتاد،منهكا ،من عمله وزياراته المفاجئة للمقاهي الفخمة التي كان يديرها مركزيا ،وكان المقهى الذي صممته له في كورنيش المزرعة هو الأحب على قلبه، ينهي فيه جولته بفنجان قهوة يحمل توقيعي وتصميمي، فتاة تجلس قبالة الشاطئ، يجلس على المقعد الأبيض، تحت لوحة رسمتُها له كأول هدية ( وجه فتاة تبدو تارة باكية وأخرى تضحك ،تجلس في حديقة بنفسج )، يتأمل البحر من النافذة ، ويتنشق نسيمه المالح ،ويطرد عنه افكار كثيرة خطيرة… يجول بنظره في المكان بحنان ،حتى عاملي وعاملات هذا المقهى تحديدا ، يعاملهم معاملة مختلفة…أخبرني هالي بكل ذلك حالما وصل ، أخذ دوشا باردا، وارتمى على الأريكة التي وضعتها له على الشرفة قبالة القمر ، المشروب الذي يحبه ، ماء الشعير بنكهة الشعير ، وبعض المقرمشات ،جلسنا كمراهقين وهو يحكي لي..
- أليف كم أحبك! خفت أن أخسرك..لذا…
- ماذا ؟ ضحكت باستغراب مع خوف مباغت ، هل من مكروه…
- لقد أخفيت أمرا…وحان الوقت لتعرفيه…
- إذا أردت..لا تتكلم…لا يهمني أن أعرف…ألست معي ؟ هذا يكفيني….
رأيت في عينيه دمعا ،وعلى شفتيه رجفة..خفت…
- تكلم…ما الأمر؟
- لم يبق لي غير عام على الأكثر…هكذا قال الطبيب…
الأحلام البعيدة ،القمر المستدير ،الليل،اليمام، والشجر…كل شيء تجمع في قلبي كبركان ،تفجر في صدر هالي،عانقته بشدة ،قبلته في عنقه مئة قبلة أو أكثر…أنت لن تذهب لأي مكان…قضينا أجمل ليلة في عمري ،تلك الليلة الأخيرة ،الخاتمة،لكل شيء….لم ينتظر هالي هذا العام…لكي أعيش معه السنة الثانية من سني مولدي ،تركني بعد أسبوع ، مع مقهى أسماه أليف في ( كورنيش المزرعة)
وندي
مرّ شهران… ثلاثة…أربعة..لم تعد تكلمني ، حين عدت من بيروت إلى الضيعة ، قبل عام من اليوم، أخبرتني أن عملنا معا على ما يرام ، هذا ما يضمن أن نبقى صديقين ،أتتخيل أن تكون الحياة بدون كلماتك على الأقل ؟ بدون وجودك الآمن ؟ أنا لا أخجل أن أبثك ما أشعر به ،ولا أتوانى عن ذلك أمام الملأ ! لكنك استطعت أن تغادر ببساطة….لا تجب..أنا أعلم لماذا…لكنني أحاول أن أُشفى…
أخبرتني أن اسمك علي،هذا الاسم الذي يحمل الكثير من القداسة ، بدأنا بالعمل معا ،بعد أول حديث دار بيننا عبر الهاتف ،أعجبتك كلماتي التي نشرتُها ، فطاب لك اسلوبي:
- ما رأيكِ وندي أن تبدئي بالتأليف غدا ،وأنا أقوم بالباقي.
بعد أقل من ساعة ، حوّلت الأفكار التي أرسلها لي علي إلى نص متكامل ، وجاهز للنشر..أرسلته عبر الوتساب.
- هذا مذهل! هل أنت ساحرة وندي؟؟
- أتمنى لك ليلة سعيدة ،نتكلم غدا إن شاء الله.
صديقان نحن ونعمل معا، آدم لا يمانع، وأنا أنتبه دائما لكل الحدود ، لأن وهج الصداقة الذي بدأ يمتد في داخلي ، جعلني أراعي أكثر ،كل كلمة ،كل نية ، كل إرادة وتصرف.
علينا يا شمسي أن نبقى على مسافة بئر ،وكأس خمر ،وكتب تحترق ،علينا أن نقطّر هذا الرحيق السماوي ، ونعبئه قطرة قطرة في قوارير يختمها الوقت…سيأتي الموت عاجلا أم آجلا ليثبت أنك ستحيا للأبد رغم كل شرائع الأرض… هكذا فكّر الرومي.
لا يمكنني أن أحصي كمّ ما قلناه ،خلال عامين ونيف، ولكنه كان وضّاء لدرجة أن تفاصيله تبخرت وتحولت لنور في قلبي.كان كلاما للحظته ،يشفي كل جرح في كياني ، يمسك بيد وندي إلى المرآة،يقول لها، انظري كم انت جميلة، يصطحبها إلى الشاطئ، يخبرها عن الرمل والمحار ،والموج العالي عن المد والجزر، وفجأة يجعلها تلتفت إلى قوة خفية ،وإرادة صلبة ،وعزم لا يلين…وفي أحايين كثيرة يرافقها إلى المطبخ ويحضران سويا كوبا من البابونج بلون بشرته هو…نعم هذا الكلام…كان وضّاء كثيرا.
لم يكن خيارا عبثيا…رغم الكثير…رغم الألم الكثير والخذلان…آدم كان خيارا نفسيا ،أردت الأمان الجميل ،ووجدته،لكن الفقد كان يعيش في داخلي كمأتم ، قبلت بالقليل ،القليل جدا…من شدة الحزن الذي كنته ،رأيت أبسط الأشياء مصدرا لفرح صغير ،لا لم يكن مثاليا بالمرة…لكنني لا أستطيع خذلانه كما خُذلت، ولا إقصائه ،كما أُقصيت تماما من بلاد الحب…حتى جئت أنت، فعدت ،لِم أنت؟ ما سألت ،لأنك أنت ،الآن رحلت..لأنك أنت…
- آدم، أصارحك،أنا لست سعيدة،وأعلم أنني أحرق غاباتنا،بهذه الكلمة،أرجوك اتركنا نحترق، هب أني إحدى شجراتها التي مات فيها حب الأرض…
- الشجر يا وندي لا يكف عن حب الأرض ولو بدا كذلك…
معه حق، مرت سنة ،اعترفت فيها لآدم بكل مشاعري من حزن وأسى ، كان في الأساس قد لمسه فيّ، ومنذ الأسبوع الثاني من خطوبتنا ، لا بد أنه يحمل ذكاء عاطفيا ليس بالهين ، وذكاء من نوع آخر في التخطي… ما كان يشغلني ويقهر كياني ليس بالقليل فأنا لم أعش خطوبتي كسائر الفتيات ، ولم يكن آدم يشبهني أو يشبه تطلعاتي في الحياة ،فقد مرت ساعات طويلة من الملل،النكران،الندم،الشجار، لأنه لم يستطع ملء حياتي بالسعادة ،وإن لم يتوفر المال لذلك بوفرة، لم يتوفر معه التوازن الفكري ،وحتى العاطفي في لمس مناطق الحب داخل القلب ،وليس فحسب على امتداد الجسد، هذا الجسد الذي كان النافذة الأولى والأخيرة للتنشق ،وإلا لا داع أصلا لتواجدنا معا….كمية الألم لا توصف، لكن الألم المظلم الموجود في كل ركن من عالمي أنا لم يلفظ هكذا نوع من الأوجاع والنواقص، وكأنه تعرف إليه وقبله كفيروس صديق…. (خذلت نفسي) هذا شعور أخفيته، في أعمق نقطة… آدم الجميل كإنسان ،لطّف كثيرا من أساي بقدر ما بثثته من حنان ،كان يُشعرني على الدوام أني كثيرة عليه، امتنان فائض،كان سعيدا بوجودي ونفَسي...(وندي …أعشق رائحتك…) كان يرددها على الدوام ،ولا يزال لليوم،حتى عندما فقد كل شيء ،كل قوة يمتلكها بعد تلك الحرب…..
بقرار اتخذته وحدك قررت أن ترحل ،وتبقى، قررت أن تقطع حبال أحاديثنا بعدما انتهت قبل مدة ليست بالقليلة روابط عملنا المشترك ،فقد ختمت الشركة التي أسستها لك منذ أعوام خمس بالشمع الأحمر الذي اشتغل في ليلة ظلماء…كانت ليلة للروح من تلك الليالي المظلمة…لم تعد بحاجة إلي لتصميم الأفكار وتنفيذها في نصوص ،من يقرأ أصلا في هذه الأيام! وما الداعي أصلا لنبقى على تواصل طالما انتهى العمل ،إلا تلك الروابط المشتركة بين فكريْنا ، كأن سيلا من الذبذبات كان مندفعا من اتجاهين بلا هاتف ، بلا كلمات.
الخطر
حريّ بالرائي أن يُصدق رؤيته ، لأنه هو الوحيد الذي يلمس صدقها...وكان الرحيل قدرا ، ومن يحب لمحبوبه أن يسقط في عين الخطيئة ،لا… لا يكون مُحبا…. عدت أدراجي لآدم أرمم ما كسرته فيه، لقد كان صدقي هداما ،لكنه شفاني ، لا أطيق الحياة بثوب ليس على مقاسي ، لذا قصصت منه ما فاض من حزن وألم ، وما بقي صار جمرا ،فرمادا، فأنا….
- آدم لن أتركك…اطمئن…
- صمت…( كان صمته يحمل وجعا وقهرا كبيرين ،كفيضان غسل قلبي ، فلم يبق فيه الا الرضى والامتنان)
- ألا تريد أن تشرب القهوة معي ( أبتسم)
- بالتأكيد( يتغير مزاجه،يفيض بورد يغري الروح بقُبل…ألمس عنقه بسلام ..يهدأ كطفل… أستريح…أحضر القهوة….نجلس على الشرفة… نتحاور كصديقين قديمين عاشا معا دهرا… كلانا يحب الآخر بطريقته….) ويضيف: وندي أنتِ ملاك…هذا الصبر فيك نادر كالالماس…ليت القدر يمنحني القدرة لأجعلك أسعد إنسانة….ليته…
- آدم…القدر فعل…( لم يهتز الملاك المتواجد على كتفي اليمين لبرهة ،بوجودك أنت…لم تكن ثالثا بيننا ، فأنت أنا…لكن شيئا لم يكن ولن يكون مثاليا…طالما نحن أشجار هذه الأرض…لا لم يكن مثاليا أن ننبت هكذا..ونحب..ونُهزم…ثم نحب وننتصر…أمن العدل أن نُعطى فرصة واحدة قبل أن تسرقنا الجنة أو تأكلنا النار…؟ ها نحن بين ماض وانتظار…وقل من يحيا حاضره…فيحيا للأبد! )
- وندي، أنتِ زهرة الربيع التي لمحتها في نيسان بلا تاريخ ،من تلك النياسين الكثيرة ،كنت تبتسمين برقة ،رغم ما تلبسين من ثوب الحداد ، كانت وفاة عمك على ما أذكر ،لمحتكِ، تأملتكِ ، جفلتِ من صراحة إن لم أقل وقاحة نظراتي ،توقعتُ كيف تفكرين ، صبرت…سنة لا أكثر…رأيتك تعودين من سفر الخيبة ، ذات مساء ،لم أعتد أن أشمت ،لكنني هذه المرة سعدت بخسارتهم لك ، لأفوز أنا، خفت ،قصدت عرافة ، ضرب لي المندل ، قالت الأحجار ( تقدم يا ولدي…إنها تنتظر من ينتشلها من قاع الحزن..مبارك عليك تلك الأميرة) وجئتكِ وكان ما كان…
العودة ،أليف..
فرح جمال حين علم بموت هالي، بمقدار ما حزنت أليف..
- وندي أنا لا ألومه هذا طبيعي..
- وماذا ستفعلين ؟
- سأعود لجمال…
- تمزحين..إياك..سينتقم..
- لا يعرف معنى الانتقام أو حتى القسوة صدقيني…ليته يقسو..او يبدي أية ردة فعل ،ما كنا وصلنا إلى هنا..
- سينتقم، بطريقته…هذا بديهي…
بعد مرور شهرين ، تركت أليف شقتها، ومعها الأحلام النادرة التي عاشتها في كل زاوية ، ولم تأخذ معها صورة هالي ،التي بقيت معلقة في صدرها كقلادة لامرئية… تريد أن تكمل المشوار..مهما كانت الأثمان. ما بقي لها من هالي ذلك المقهى وكل تفاصيله ، هرعت إلى هناك ، وأخبرت الجميع أنها ستبقى على تواصل واطلاع بكل المجريات ، وقد أوكلت مهمة الإشراف على المقهى من بعيد صديقها بيارو الذي يقطن في كورنيش المزرعة هو الآخر ،لم تكن لتثق بغيره…
- أليف، ليت داني كان مختلفا..
- أخوك ، طيب، لكنه لا يجيد أن يكون أخا أو أبا ولا حتى صديقا..هو الآخر ظل…لا أدري ما فعلت بنا الايام…
حين حصل الفراق بين أليف وجمال،كان داني مثل بنين ،يلعبان دور المتفرج ، لأنهما ببساطة لا يريدان تحمل أية مسؤولية ( يخاف داني أن آتي إلى الضيعة وأعيش معه وعائلته…هل يعقل أن أفعل ؟ اه..لو فكر اكثر…بل لو شعر اكثر…وبنين…هل تتخيل أنني من الممكن أن أعيش معها تحت سقف بيتنا ،بيت أبي، وأقض مضجعها…ليتها لو شعرت أكثر…) وهكذا عادت أليف لجمال بعد انقضاء العدة ، تحاول مسح الحزن عن جبينها ،ما ساعدها أنهما ظلا مفترقان كما كانا من الأساس وهذا ما ساعد أليف على تجاوز مراحل الحزن والحداد بيسر…
بعد مرور خمسة اشهر….
- أليف،حان الوقت لنتكلّم..
- أنا أسمعك…
- لا استطيع البقاء معك ،بهذه الطريقة ،أريد ان نكون على علاقة حقيقية مثل أي زوجين..
- قلت لك تزوج إن أردت،أو جد لك علاقة ما ،هذا حقك…
- لا .. أريدكِ أنت وإلا لا داع لبقائنا معا..
- وابراهيم…وألين…وانت…هل ستوفر لي الاهتمام أو حتى اللفتة التي انتظرتها منك …هل ستجعلنا سعداء..؟
- سأحاول ما استطعت…وسأفلح…إن شاء الله..
تمنيت أن أنجح في تجاوز نفسي، في بلوغ سعادة ما ،لكن انقباض قلبي كان يقول أمرا آخر..لقد عشت معه أكثر من خمسة عشر عاما ،وأعرف كيف هي السعادة بالنسبة له ، روتين قاتل ،صمت قاتل، فراغ قاتل ، وأنا الضحية…يعتصرني كلام وندي ،ربما سينتقم!
الندم
شعرت بنين بأنها هي الجانية في مقتل ابنتها أليف، الطفولة،الأحلام ، وحتى الاحتواء، ومؤخرا جنت على ابنتها حين قاطعتها ،لما تركت زوجها ،أهانتها،ورفضتها حين تزوجت..ولم تقل لها تعالي إلى بيتك بعد موت هالي… مرضت وكبرت في عام واحد لأكثر من عشرة اعوام ،وكان الندم رفيق الليل والنهار ،والرقاد حبيب هجرها وقال لها ( أنت قاسية بنين…لا أريدك..) وفجأة استفاق كل شيء في كيانها ، هاتفت أليف:
- حبيبتي أليف كيف حالك؟ أعرف ظرفك، الآن، لم يكن باليد حيلة، تعالي، نعيش سويا على الحلوة والمرة،نتقاسم ما تبقى لي من حياة،لتكون حياتك بعدي اكثر هدوءا…
- الله يطول بعمرك يا ماما ما تحكي هيك..( اه..واه..أمي ! يجتاحني الدمع كفرح مباغت يأتيني بعد جفاف دهور.. الحياة منصفة…المنهزمون يميلون للقول لا عدل في هذه الحياة..لا ألومهم كثيرا..لم يدركوا بعد أنهم قوة الحياة القاهرة..وأن القدرة الالهية العظيمة تشتعل كقنديل في عتمة صدورهم..أنى له أن يضيء..أنى إن لم يحركوا فتيله هم بمحراك الإرادة..؟
اجتمعنا أنا، سارة ،وندي وداني في بيت العائلة في الضيعة ، كانت أمي قد أعدت لنا أكلة شيش برك معتبرة، جمعتنا حولها ،كما كنا نفعل صغارا ،ولكن حول طبلية في بيت غير هذا، في آخر الضيعة ،حيث الشجر والدحنون ،وحيث شتلة الحر الذي أكلتها عن آخرها فصرت حبة طماطم ناضجة تصرخ…لا أذكر في عمر العامين من هذا شيئا،فقط أتخيله كما يُروى لي في كل سهرة اجتمعنا..كانت الشاشة ،شاشة التلفاز التي لا تنفك عن عرض أفظع مشاهد القتل والتجويع في غزة ،مع أخبار في الشريط أسفل الشاشة تنقل ما يحصل في ساحل سوريا ،بلادنا ..تكاد تقفل شهيتنا عن الطعام حتى الشيش برك الذي أحب،لولا أني أسرعت لتغيير القناة،فتقول امي ( اطفئيه…بلاه..انكوى قلبنا..) ...لقد اكتوى القلب تارة من الجوى وطورا مما جرى لنا... اين انت يا ملاكا آمنا…أين أنت يا ملكا قد أعاد أرضنا…آشور وأنت… من أعاد عزنا..روح وأرض…فيض الشجون…شهب آتون…قلم ونون هناك في نينوى…
كان الطعام طعام بنين أخضر مثل غاب، أنبت في جوفنا لقاءات كثيرة منها ما كان ومنها لم يكن ، جمعتنا على مائدتها ،لتقول أشياء كثيرة لم تقلها ،كانت تنقل نظراتها بحنان بيننا، حتى داني ،لم أره منذ أمد بهذه الدعة ، وكأنه في المهد ينعم بالسكينة ( لقد تغير كل شيء ،ليتنا لم نكبر ،لم نتزوج ، لم نطر من عشنا الدافئ…) سمعت حاله يتكلم ، فمن منا يا ترى وجد في نصفه الثاني ظلا سوى لعيوبه ،وانعاكاسات سوى لآلامه ،يضاف إليها ألف همّ وهمّ…. سارة التي كانت تبدو لامبالية، تخفي في ابتساماتها وأحيانا في قسوتها ما لا تود أن تواجه.
- جمعتكم اليوم،لأخبركم أن أليف ستعيش هنا معي،المنزل كبير، ولن تعيش لوحدها في بيروت،بعد كل ما حدث…
ينظر داني لأليف بأبوة،يعانقها، تدمع ، لم تتوقع أن يتبخر الجفاء بسهولة ،كأن بنين لم تكسر الصمت بينهما فحسب ،بل كشفت الغطاء عن أخ يملك قلبا بعمق محيط ،لكنه بلا قارب ولا مرسى…ففاقد الشيء قد يعطيه ولكن بندرة أمر كهذا يحدث…ارتاحت أليف إذ أعطتها بنين ومعها داني صك براءة من جرم لم ترتكبه ،ومن خطيئة لم تجترحها..لكن كان شيء ما يجعلها راضية…كيف لا…فالتقاليد والعادات قلما تُتجاوز في بلاد تعيش الحرية وتتمسك بأقدم مفهوم على الاطلاق ، فرحت وتنفست بعمق ، انتشر زفيرها بيننا ،فعكس على جلستنا جوا من الراحة…أخيرا اقتنعت أمي أنني سأموت لو عدت لجمال…سيُدمر كلا من ابراهيم وألين..وسينتهي بي الأمر للجنون… الحمدلله عدت لبيتي…قد أجد في زواياه طفولة أضعتها..وكتاب لم أقرأه…سأعيد قراءته..لدينا الوقت..ولو لم يكن شيء مثاليا بالمرة…هذا ما وجب أن يحدث…
تناولنا الغداء،ابتسمنا،ضحكنا، قهقهنا، تحدثنا في كل شيء، تذكرنا من الطفولة حوادث طريفة وأخرى عن أبي، بكينا،ارتحنا…لم تعد علامات استفهام واتهام كبرى موجهة لأليف أو لأي منا حول كل ما يحدث في عوالمنا الصغيرة..علامات هي الأخرى صغيرة بقيت كاستفهام مشوق يحمله كل منا ليضمن للغد أمله.
أفكر جديا بإنهاء كل شيء… لا نفَس…لا ألم بعد الآن…لكن ذلك حتى ذلك لا يتم دفعة واحدة،للموت العظيم مراسم خاصة،وطرق ملكية… ها هو الليل يشحذ نفسه لملاقاتي ،والموعد رهن العذاب الذي أعيش، الهواء ينفذ مثل رمل داخل خصري، جسدي هو الوقت،وروحي معلق مصيرها بأوجه القمر ..لن أحدثك بعد الآن…لن…فسم الاحتراق قد بللني…الماء يتواطئ مع الليل وملح الدمع…وغيابك… لم أردك سوى سميرا لي… لن أخون مركبي…وأرمي نفسي في حضن البحر…كنت أرجو النجاة وأنا لا مبللة ولا أجدف نحو الأشياء… لكنك رحلت مع المحاق…ولم يعد البدر يرسم أي ضوء جديد…سينتهي كل شيء قريبا…أو سأنهيه بيدي…فالليل يشحذ نفسه لملاقاتي والأرق…والدمع…. (كانت وبين أجمة الأشجار على مرمى حجر من شرفة وندي حيث تجلس ،بعد ليل قصير، وسهر طويل ،يمامة أخرى جديدة ،لم تتعرف إليها وندي، تتنقل أمام ناظريها بشكل غريب ومبالغ ،تحمل بنقارها قشة أطول من المعتاد،وكلما اختفت عادت تحمل قشة بذات الطول ،كأنها تريد أن تخبرها سرا ما ،لكنها تستخدم أسلوب الإشارات ، منحتها أملا صغيرا ،لا يتجاوز حجم حبة عفص،من تلك السروة ،حيث تبني العش لأطفالها ،وليس من الممكن تجسيد الأمل حسيا ،إلا في حال وندي،حيث الألم صار شجرة ثابتة الجذور ، واضحة الأغصان…وكلما سقطت منها حبة عفص،ولد أمل صغير وسرعان ما اختفى في التراب بين الشواهد ،والقبور، ثم ترفرف له روح صغيرة مثله…تدخل قفص وندي الصدري…لذا استطاعت حرفيا أن تجسد الأمل بهذه الطريقة…وإلا لعجزت تماما عن تصوير مثل هذه الأشياء التي لا توصف)
داني
يبكي ويضحك لا حزنا ولا فرحا..كعاشق مد سطرا في الهوى ومحى..من بسمة النجم همس في قصائده…ومن مخالسة الظبي الذي سرح…قلب تمرس باللذات وهو فتى…كبرعم لمسته الريح فانفتح…
كأن فيروز تدخل بصوتها لعقلنا ،ومشاعرنا، يفكر داني ،بينما يحتسي فنجان النسكافيه مع زينة زوجته ،على الشرفة ،للأسف لا يشاركها تلك الأفكار ،ولا حتى صوت فيروز ،يسمعه من مخيلته فقط ،فقد أخبرته أن الصباح بلا موسيقى أكثر هدوءا ،وهو يميل إلى هذا النوع من الهدوء… لا يحب أن يعبر عن رغباته بوضوح ، يتعايش مع الأحاسيس الراهنة ،يكره المبالغات ، واقعي حد الروتين ، لكن زينة تحب ربما أن ينقر على أغنية فيروز التي يتخيل..أن يعيد لها صوت قلبها الذي شوشته أصوات أخرى ،مزعجة، جدا….
- داني،( بغنج) انظر لهذه القلادة، ستكون رائعة حول عنقي..
- يقبلها داني حيث أشارت،يلتفت يمينا ،يسارا، ربما أحد ما يسترق النظر…
- لم تجبني.
يشعر داني بضيق،كيف لم بحبها ! كيف تقرأ زينة رسائله ؟ هل تقرأها أصلا ؟ ألا تربط بين الفعل وردته ؟ ألا تستطيع الصبر والانتظار…لترى ماذا يمكن أن أفعل…
- تتهرب من الموضوع،أنا أعرف،أنا أريد هذا العقد..( قلادة باللغة الدارجة).
- يقف داني، أنا ذاهب للعمل ،زينة ،إلى اللقاء.
تظن زينة أن الغنج والدلال وحدهما كافيان للحصول على ما نريد ، هي تتجاهل أو تجهل أن للروح لغتها وللصمت مفرداته. حالما يخرج داني ،ترتدي ملابسها ،تودع الأولاد،توصيهم بالانتباه أثناء غيابها ،خاصة على ناجي الصغير بعد تخليهم عن العاملة التي كانت ترعاه لسنوات منذ طفولته، تصل إلى المختبر عند التاسعة تماما.يصل داني عند التاسعة أيضا إلى معمله الصغير بعد مشيه لعشر خطوات، فهناك قرب المنزل الذي بناه حجرا حجرا ، بكثير من الانتظار والشوق ،ليعيش مع زينة بسعادة كان يحلم بها تحت سقف واحد، هناك تحت شجرة الصفصاف ،بنى منذ سنوات قليلة غرفتين ،الأولى واسعة جدا، تكفي لوضع عدة النجارة ، الطاولة في الوسط تقريبا ،بمحاذاة الحائط المواجه للباب ،لقص الخشب، وعليه رفوف هي الأخرى من الخشب ،مدعمة بقطع حديدية ،وضع عليها بترتيب فائق علب المسامير ،إضافة إلى المناشير المختلفة الوظائف ،لقص المنحنيات،وأخرى للتنعيم ،وثالثة لتشكيل الأعمدة والمجسمات الدائرية ،مطرقة،مفكات،شاكوش،مفاتيح…وأجمل الرفوف،ذاك الذي يحتوي على مواد دهان وتلميع (ورنيش، لاكير، دهان خشب) كان مرتبا بطريقة ملفتة…كانت يداه تعرفان اوتوماتيكيا كل غرض ومكانه…تحت اللمبة العملاقة المثبتة فوق الطاولة ، وقف داني بعدما ارتدى القفازات ووضع السماعات الواقية من أثر الصوت ،قام بتوصيل المنشار بالكهرباء وبدأ بتقطيع لوح كبير ،ليصنع منه مراسم خشبية او حوامل للوحات ،قد طلبتها منه رسامة ،تقيم في بسكنتا ،رأت أعماله عبر الفيسبوك ،وتواصلت معه لأجل إنجاز عددا منها للوحاتها الجديدة…
أتخيل اللوحات وهي تستند إلى تلك المراسم، صبية ترتدي ثوبا ريفيا وتقطف بعض الأزهار…أخرى لأربعينية تبذر القمح بينما تعتمر قبعة من قش،الرداء طويل، وفيه فتحة حتى الركبة حيث يكشف المشهد عن ساق لؤلؤية،تنشر ضوءها أشعة الشمس، ولوحة لمنظر طبيعي،فيه أشجار وارفة وحقل مزروع ب الاخضر عند المغيب، وفي البعيد البعيد قرب الأفق سيدة تلوح بيد واحدة لمسافر لها، وفي اليسرى ترخي كتابا ،قد حملته بإصبعين…أتخيل ذلك وأنا أشعر بشغف الآن ،أشتاق لزينة عبر هذه المسافة التي تفصلنا ،ولا أدري…لم يتبخر هذا الشوق حين نلتقي…هل أطلب منها أن تبتعد ؟ وإلى متى ؟ ليتها تبتعد بينما نكون سويا لمسافة كافية لأجل الحب…
لمى… اسمها لمى تلك الرسامة والموعد اليوم بعد الظهر ،ستأتي وتحمل معها المراسم ،ستحمل المشاهد التي رسمتها أنا…سيختفي الأفق ،والحقل والشمس ومغيبها ،ستتبخر الفتاة الريفية والأربعينية البسيطة ،والتي تودع حبيبها عند الأفق.. ترى ماذا كانت تقرأ ؟؟
اليوم مساء موعد عيد ميلاد زينة…يا رب..ماذا أفعل ؟أوف…سأشتري لها العقد…وبينما كان داني يستحم عند الثالثة ويفكر بكل هذا…وزينة في المطبخ تجهز الغداء…تذكر فجأة جملة نشرتها وندي أخته بالأمس ( أريد لمن أحب ان يكون حرا..حتى مني) …
- حسنا…لم تذكرت الآن علي ان أنسى..المهم أن أقصد محل الذهب وبعدها… لا أعرف..لا أعرف شيئا…
- داني… الغداء جاهز..ناد أخوتك وتعالوا…
أنجبنا خمس أطفال ،أربعة صبية ولولو الصغيرة آخر العنقود…هي دلوعتي ،التي لا تخجل مني، لا أنفك أعود معها الطفل الذي تركته منذ زمن بعيد ،تركته مع حزن،وصمت وشرود ،مع قناع فرح ،معها لا أرتديه ،معها أرتدي وجهي الحقيقي…وتبزغ بسمتي كفجر …
- بابا حبيبي بدك تاكل؟
- وأضحك من كل جوارحي ،لولو …وتغمز عيناي لها فتسرع لحضني ،الذي جف من زمن بعيد..فتعيد إليه بعض الروح..لا أعرف إن كنت أنا أباها أم أنها هي الأم التي افتقد!
- ليتك تعطيني ربع ما تعطيه للولو من غنج..
- زينة…أنت الكل بالكل…
لماذا لا استطيع صياغة كلمات اجمل معها( انت أميرتي..) أو حتى أن أحضنها بنظرتي..ترى ماذا فعلنا حتى حل بنا ما حل…وكأنها التقطت مأساتي بأسى فأرادت أن تقض صمتي بضربة قاضية:
- غدا ستأتي الرسامة؟( بغيرة وازدراء..)
- وما المشكلة ؟ نعم…( بانزعاج باد..)
ارتديت ابتسامتي كما قميصي الأبيض ، حضرت أمي ،بنين،أليف،سارة..وأولادهما…أحبهما بشدة ،لكن شدة ما داخل صدري ،تلجمني، كي أكون الأخ المثالي لهما ولنفسي…صوت قاس من الطفولة يعكّر صفو لحظاتي كلّها…يجبرني أن أكون داني هذا من أنا عليه…”أنت أحمق… أنت لا تستحق…أنت غبي…هههه .انظر إلى شكلك…هاهاهاها… راقب تصرفاتك..ولد! ولد!…وتنتهي الجمل بنظرة مثقوبة ببُؤر من ازدراء..وتحقير….أهبط داخل البؤرة..أنزلق في العتم..يأكلني الظلام…أنكمش أكثر..تبتلعني الكلمات…أنقذوووني..لم أقلها…لم أستطع الانهزام أكثر…
- داني حبيبي كن سعيدا اكثر…ابتسم..
- ( يرسم ابتسامة من الخدين وحتي العينين) تفضلي حبيبتي زينة….
- يااااي، شكرا داني على العقد …كم هو جميل…
- يمسكه من طرفيه ، يقترب من ظهرها ،تدنيه من صدره ،تحني رأسها قليلا ،يضع القلادة حول عنقها بهدوء محكم،يحاول قدر الإمكان أن يعيش اللحظة،ينجو قليلا ،يشعر، تطبع قبلة على خده مباشرة قرب الفم،يحمرّ بسرعة ، يسيطر على الموقف،يعانقها بطفولية… يصفق الجميع.
عند السادسة تماما ،وصلت لمى بسيارتها البيجو الحمراء ،ترجلت بملابس خفيفة ،جينز،كنزة بيضاء ،رفعت شعرها على هيئة ذيل حصان،وبكل عفوية مدت يدها لتسلم علي ،خلعت قفاز العمل، صافحتها… بحركة أوتوماتيكية ،فتحت صندوق السيارة ووضعت المراسم بعدما لففتها بقماشة.
- الحمدلله أنك تركت الصندوق خاليا وإلا كنت سأضطر لشحن المراسم لك بالبيك آب،،
- عملت حسابي لذلك…لا عليك…
كان صوتها شجيا…والمشهد مغيب ، معه رحلت ،وابتلع الأفق شكلها واللوحات ، وكنت وحدي أرقب كل ذلك ،وأودع الأشياء كما تودعني ، لكنني حر! وكم بإمكاني… حين لمحت زينة هاتفي بين أصابعي ذات صباح ،ورأت فحوى محادثتي مع لمى، كان تصرفها هائجا ، فضلت الانسحاب ،لم أواجه ،تركت حريتي مسلوبة على أعتاب زواج أبدي…لا يبرره إلا قانون مطلق مثالي هو الآخر…
ليتني أستطيع أن أقبض على الحلم…ليتني…إذ رأيتك بعد انقطاع…وأقسمت ان لا أكلمك..لن أجيب بحرف…ولو كلمتني..سأصمت حتى الموت..تلك الليلة..وأفقت…وريحك في أنفي..وروحك تقبض على بقايا انتظار..كنت قريبا جدا…شفافا كما أنت الذي لم أره البتة…ورأيتك في الحلم..ليته يبقى في صدري..مثل قلادة زينة…إنك أعمق من أحزان داني في أبعد نقطة… أجمل من كل الليالي…ومضيء..مضيء جدا…
على طاولة الغداء
- شكرا أمي على الشيش برك لذيذة جدا كالعادة…
- بالفعل يا وندي معك حق أردفت سارة بحنو
- أطيب شيش برك من يد الست أم داني علق داني
أما أليف فكانت توافق برضى وحزن عينيها الدامعتين كلام أخوتها ،لم تشعر أنها بحاجة أن تتكلم… تريد أن تحظى فقط بهذا الدفء…قطع شرودها رنين الهاتف، استأذنت نحو المطبخ:
- آلو بيارو كيف الحال؟
- مشتاق لرؤيتك أليف…
- صمت…
- ألسنا صديقين ؟
- تنحنحت، بلى .كيف لا؟ ما أخبارك ؟
- اليوم عندي مشوار ، صوب الضيعة ،أراكِ؟
- صمت…
- أريد أن أنقدك المبلغ الشهري يدا بيد هذه المرة..كان نتاج المقهى هذا الشهر رائعا الحمدلله…
- إذن أراك ،أنا في بيت أهلي ،تعرفه؟
- بالتأكيد…اليوم بعد الظهر أنطلق من بيروت ،أراك مساء.
- من يا أليف؟
- بيارو، الفنان التشكيلي ،( وهي تنظر لسارة) سيأتي اليوم و…ويعطيني..يعطيني بدل أرباح المقهى..
- أي مقهى ؟؟
- أرجوك أمي..اتركيني الآن أرتاح…وسأحكي لك كل شيء..غدا ربما.
ساد الصمت الغرفة،يقطعه صوت توضيب الصحون وحملها من الطاولة إلى المجلى مباشرة في المطبخ ، اتكأت سارة بكوعها الأيمن على حافته ،وراحت ترمق أليف، بنظرات مستفهمة…
- سارة…هالي ترك لي مقهى في كورنيش المزرعة،هو بالنسبة لي أجمل ذكرى ستجمعنا ما دمت أحيا…قبل أن يكون مصدر رزق جيد…لا أخفي عليك أشكره من كل قلبي على ما قدمه لي…فلولاه ما كنت لأعرف ماذا سيحل بي ،،بنا..أنا وإبراهيم وألين…
- جمال مازال مسؤولا عنهما لا تنسي…
وقبل أن تجيب أليف،وصلت بنين إلى المطبخ( لن أصبر للغد… أخبريني ما الحكاية..اتركي الصحون وتعالي…) جلستا ،على شرفة المطبخ ،وساعدت روائح الحبق ،والمردكوش أليف على الاسترخاء بينما تحكي لأمها كل شيء.
وصل بيارو عند الثامنة تماما للمنزل، طرق الباب ، فوجد أليف تستقبله ، بثوب أبيض، قصير الكمين ،يصل للكاحل ،وقد أفردت شعرها الأسود على كتفيها ،وزادها الحزن مهابة…
- أنا سعيد لرؤيتك..أليف..بعد هذه المدة…الأبيض لائق جدا…
- (لا أحبذ اللون الأسود بتاتا..لا أريد لحزني أن يكون مظلما..أريده كالضوء…أحيا به…ولا يقتلني…) شكرا بيارو هذا من لطفك،تفضل واحتس معنا القهوة.
كان إعداد أليف للقهوة ،ودعوتها لبيارو ،هناك، على الشرفة المطلة على الشارع العام ،بحضور بنين،سارة وأليف أيضا هو بمثابة رسالة على بيارو أن يفهمها وقد فعل ( أنت بيارو صديق وأخ لا غير) ،وقد استرخى في جلسته، مع بعضٍ نسمات حزن طافت على وجهه الأسمر ، حاول أن يطردها بأحاديث كثيرة…
- كانت قهوة لذيذة أليف وجلسة دافئة شكرا.
- على الرحب صديقي وصديق هالي الحبيب ( بصوت منخفض وملؤه الحنان..)
ابتسم بيارو تلك الابتسامة الصامتة التي تحمل الكثير من حب والكثير من الوفاء ،ونزل درج المنزل خطوة خطوة،كأنه يشيع حلما ما…
لم تعد اليمامة،لكنك عدت لتخبرها بسرك…حين طارت ذات صباح قريب فوق السروة التي تحجب عني رؤية الجميع…قرب شرفتي…راحت تحط وتطير…لتخبرني أمرا ما …أنا أعرفه…أنك هنا …لا تحجبك السروات..والمسافات…وألف ميل…وسبع سموات….
سارة
يحبني الله ،وإلا كيف سيحملني ما لا طاقة لي به ، جاد الذي ولد مع متلازمة داون ، ولم أعد أستطع احتمال وجود أخ له أو أخت ، فالاحتمال الأول الذي يرهبني أن يكونا مثله،هو ..أو..هي… والثاني أن أعجز عن الاهتمام به لو صار له أخوة…يحبني الله ،فكريم زوجي حنون ومساعد ،وهو مخلص أيضا..يحبني الله لأنه يريدني أن أتعب هنا…وأرتاح هناك…
- سارة…هل أنت مقتنعة بما تقولين… يعذبنا الله هنا لنرتاح هناك ؟ ( تضحك بألم…)
- وندي …لم أفكر كثيرا بالأمر… اعتدت عليه بالأحرى…
- الله يا سارة قدرة عظيمة وكاملة…هو المثالي الأوحد في ما نعيه…وما لا نعيه..حتى صيغة الذكورة التي نطلقها عليه كلما تكلمنا عنه أو خاطبناه ،فيها من القصور ومن التجني…تقرّب الأديان والكتب السماوية فكرة الله بهذا الخطاب، أما الله ففكرة أعمق ، ولا يستطيع يا سارة الجميع الوصول إلى كنهها إلا القليل…وإلا لو استفضنا… ربما نتعرض للقتل والتكفير..
- للقتل؟
- بالتّأكيد…
- وكيف عرفت يا وندي كل هذا؟ من قراءاتك فقط؟
- الشعور، الفطرة،المحبة… ثم القراءة…وأية قراءة! قراءة معاني العرق المندى على جبين مزارع أو جامع نفايات… قراءة البسمة التي ترسمها شفاه رقيقة على صفحة وجه جدة حنون…قراءة تعب الأمهات…وصبر الآباء… قراءة صلاة الحقل تليها تسابيح النسيم بأيدي السنابل وسعف النخيل…ثم قراءة كتب المبدعين الذين هم بدورهم قرأوا الحياة واستمدوا منها القلم المبدع والوحي العميق الذي يترجمه الناس على أنه مجرد شعور وإحساس،بينما هو في الحقيقة فتحٌ من ضوء ويقين.
- كلامك جميل وندي ومريح ،لا أحتاج معه إلى تفكير ،بقدر ما يجعلني أتأمل وأشعر…
- بم ( تبتسم بحنان)
- بسعادة…ووعي.. وشعوري بوعيي بحد ذاته مصدر سعادة…
- نحن يا سارة لا نتعذب هنا،لنرتاح هناك.. نحن هنا ويحصل ما يحصل معنا بما عرفناه،وجنيناه، وكما تصبح البذرة في آخر المطاف شجرة عظيمة ،وتعود لأرضها ،وقد تصير لاحقا طيرا، وبعدها إنسانا… كذلك … نسير على طريق التكامل ،بكل ما لدينا من نواقص ومثالب…بكل ما نعانيه…نحن نولد لآلاف المرات لنصبح الصورة الأمثل…هنا الآن..لا شيء مثالي على الإطلاق.
أنتَ الأحب إليّ من كل الأشياء…من الشجر والورد…من المسك والغزال…أنت الأحب إلي وأنا لا أخون ولا أكره..لا أترك..لا أهجر ولا أتعب…أحب إليّ من الأثير حين يُهدي المدى رونق الحرية…أحب إلي وأنا أحضن آدم كطفل لي..وأحضن الأشياء…أنت الأحب إلي بينما أعانق نفسي..بينما أصلي وأذوب وأتوب وأعود…منسي في داخلي كذكرى طفولة لا يمحوها الوقت…مزروع في شَعري الذي بات طريا كطراوة مبسمك حين يُشرق ولو كنت باكيا أو غاضبا أو ساخطا..كن الضمير الذي يستتر…كن الفعل الذي اكتفى بحرف واحد…وأمر واحد…رَ…بقلبك ما لا تراه بعينك… حينها لن تظلمني…أنت … أو آدم…أو اليمام الغائب..
تمتلك سارة موهبة الرسم ،والنحت، والتطريز.. متعددة المواهب على نحو لا يوصف ،وقد أعانها كريم على تحقيقها وعيشها دفعة واحدة ،بما منحه لسارة من دعم وحرية… ومعاناتها العميقة مع حالة جاد…وتقبلها..وحبها وحزنها..كل ذلك خلق منها سمفونية خاصة جدا، تكاد نغماتها تُسمع…رغم صمتها.
- آلو سارة…اليوم ستحضرين المعرض ؟
- بالتأكيد بيارو…فقط أرسل لي احداثيات الموقع لأصل بسهولة.
- ألن يرافقك كريم؟
- صمت…
- أنا كلمت أليف وحاولت كثيرا أن أقنعها بحضور معرضي ،خاصة أنه سيكون في المقهى! لكن عبثا..أنا أفهم مشاعرها…لكن عليها تجاوز كل هذا…
- تحتاج لوقت..صدقني…سأكلمها..
- أرجوكِ.
ويحدث أنني أرغب في موت مفاجئ…ليس الموت بل الرغبة مفاجئة وملحة! أتخيل حبل المشنقة…وردة تمتد بساقها من باطن قلبك إلى شاهق سمائي…كم أشتهي طعم الخلاص…مع نكهة الورد،والعطر ! كم أشتهي هذا العناق! خذوا جسدي…يصرخ صوتي..وحده..بكتمان شديد…وأنتحر تماما مع آخر قطرة أمل تُرهقها أنت والوقت.
Dinle: Meryem Ana Tanrıyı Doğurmadı Türkçe Rap Beat
Hi! I could have sworn I’ve visited your blog before but after browsing through a few of the articles I
realized it’s new to me. Anyhow, I’m definitely
pleased I stumbled upon it and I’ll be book-marking it and checking back frequently!!
Why viewers still make use of to rewd neas papers when in this technological globe all iss available on web? https://odessaforum.Biz.ua/