جبران وميخائيل نعيمة من افضل ما كتب العرب في الفلسفة والادب

بين ادب جبران خليل جبران وجوهر ميخائيل نعيمة {العقل و الروح}

خواطر

بين ادب جبران خليل جبران وجوهر ميخائيل نعيمة{العقل و الروح}رحلة تاخذنا بعالم من رهبنة الكلمات والمشاعر تسرق منا الاحساس بالوقت وتلهمنا بالنظر نحو المستقبل 

من هو فنّان بشري ومن هو ناسك الشّخروب؟

لعلّ هذا العنوان يشي بهويّتيْن انسجمتا مع الطّبيعة أيّما انسجامٍ،فغنّت فيروز للأوّل “أعطني النّاي وغنّ” وردّد الكون للثّاني “شفتاك عضّهما الجليد قيثارتي، وعليهما جمد النّشيد قيثارتي! ” في أناشيد صوفيّة لا تنتهي من طريق الصّعود إلى مفترق التّخلّي وصولا للاتّحاد الكلّي!

جبران ونعيمة

بين هويّتيْن تجمعهما جبال الأرز وصنّين على امتداد سوريا في ظلّال الاحتلال العثمانيّ لتلك البلاد، تلتقي مشاعر كثيرة وأحداث وهواجس مشتركة وهجرة قسريّة نحو أميركا عالم الغرب الّذي أغرى صاحبنا الأوّل وأعني به المبدع جبران خليل جبران وما كحّل عيني الثّاني أي الفيلسوف ميخائيل نعيمة.

أعمق كتب ميخائيل نعيمة سرّ ولغز حقيقيّ!

ما الّذي يجعلني أطرح هذه المقارنة الآن بين جبران ونعيمة، بعد عقود عديدة وبعد دراسات طويلة ومهمّة تعجّ بها الكتب ومواقع الانترنت سوى ذلك الأثر البليغ الّذي تركه فيّ كتاب ميخائيل نعيمة (مرداد) ذلك الكتاب المقدّس الّذي حلم نعيمة أن يكون، وهو النّاظر دوما إلى المطلق، يقيس به كلّ شيء، للعيش في دولة عالميّة بدين عالمي واحد.وقد أهداني إيّاه صديق عزيز ما زلت أشكره للآن على هذا الكنز الّذي لا يُثمّن. 

كتاب مرداد

عندما سُئل أوشو عن هذا الكتاب أجاب:” هناك ملايين الكتب في العالم لكن كتاب مرداد أهمّ بكثير من أي كتاب آخر في الوجود.ومن المؤسف أنّ قلّة من يعرفونه،لسبب بسيط، أنّه ليس كتابا دينيا.إنه حكاية، خيال، لكنه يحتوي على حقيقة عميقة.إنه كتاب غير عادي، بمعنى أنك تستطيع قراءته ثم تشتاق إلى قراءته مرة أخرى. لأن معنى الكتاب ليس في الكلام الذي يحتويه، لكنه يجري جنبا إلى جنب في صمت بين الكلمات، بين السطور وفي الفجوات.”

إذا كنت في حالة تأمل،إذا كنت لا تقرأ قصة خيالية فقط، ولكنك تواجه التجربة الدينيةالكاملة لإنسان عظيم وتستوعبها، وكذلك أنت لا تفهمها فكريّا ولكنك تتشربها وجوديّا، فالكلمات موجودة لتصبح ثانوية، فيما يصبح شيء آخر أساسيّا: إنه الصمت الذي تخلقه هذه الكلمات، والموسيقى  التي تخلقها هذه الكلمات أيضا. الكلمات تؤثر على عقلك، أما الموسيقى فتذهب مباشرة إلى قلبك.”

“هو كتاب يقرأه القلب لا العقل، لا يجب فهمه، بل من الواجب تجربته. إنه شيء استثنائي.”

لمن خصّص ميخائيل نعيمة سيرة ذاتيّة برأيك؟

عندما تقول ميخائيل نعيمة و“مرداد”، ” البيادر، الغربال، في مهبّ الرّيح، زاد المعاد، صوت العالم، الأوثان، يا ابن آدم، اليوم الأخير، مذكرات الأرقش، همس الجفون، الآباء والبنون، أيّوب، أبو بطة، أكابر، كان يا ما كان وجبران خليل جبران!...” وكلها عناوين لقصص ودواوين ومسرحيات ومقالات تركها نعيمة بعد تسع وتسعين عاما عاشها سوف تتذكّر مباشرة اسم “الرّابطة القلميّة” واسم جبران تحديدا وقد خصّص له صاحبه الأحبّ إلى قلبه كتابا هو سيرة ضمّنها فهما عميقا لروح جبران ونقاء هذه الروح قبل فهم أدبه!

إنها سيرة تروي حياة جبران من ولادته في بشري إلى مماته في  نيويورك حيث آثر البقاء، قبل أن يحقق حلم العودة إلى الدير الرابض على كتف ذاك الصخر العظيم حيث دُفن.

وقال نعيمة في مقدمة هذا الكتاب أنه تردّد كثيرا قبل تدوين هذه السيرة مصرّحا:” لست أؤمن أن في الناس من يستطيع أن يصف حياته حتى لحظة واحدة بما فيها من معان متشابكة بمعاني الحياة الكونية”

وفي مقابلة ثرية جدا بين المحاور الكاتب في جريدة النهار عصام محفوظ وفيلسوفنا العظيم نعيمة قبيل وفاته بمدة قصيرة.. سأله محفوظ بكل صراحة: لماذا صورت نفسك بشكل مثالي في سيرتك بينما صورت في سيرة صاحبك جبران كل جوانب الرجل الحسنة والسيئة؟.

أجاب إجابة تكاد هي الدافع الأعمق الذي جعلني أتوق لهذه المقارنة التي أحاول فيها أن أكون ملمة بما استطعت من جوانب تخصّ هذين العملاقين، مع التركيز على روحية أقوى من جمع  لمعلومات مماثلة ألا وهي:

“حاولتُ في سيرتي الذّاتيّة أن أكون صادقا، كما كنت في كتاباتي كلّها. وأنا آسف أن تكون هذه السيرة جعلتك تستنتج هذا الرّأي! لم أصوّر نفسي قدّيسًا، بل صوّرت تدرجي من دنيا اللحم والدم إلى ما هو أبعد  من اللحم والدم.

مقارنة جبران خليل جبران وميخائيل نعيمة تجربة فريدة

عند هذه الجملة الأخيرة من إجابة ميخائيل نعيمة وقفت مذهولة، فإذ بالرجل أعطاني التسويغ الحقيقي الذي جعلني أخوض هذه التجربة المقارنة التي أرجو أن تثمر شيئا جديدا غير تجميع المعلومات والمصادر من هنا وهناك ورصّها.

 فأنا أودّ حقا وبصدق الولوج بشجاعة إلى القلب الأقدس لهذين الرجلين ورصد الإلهامات المشعة التي تولدت منهما، مع وضع الخطوط العريضة على ما تشابه واختلف من دون أن أرجّح  كفّة على كفّة.

 بموضوعيّة تسمح للقارئ ولي أن نلمس بالقلب بعض ما توهّج من الفكرين وأن نستشف آفاقهما ونوعيّة المركب الّذي امتطاه كلّ منهما للوصول إلى ما وصل من فكر وموسيقى ولمعات..

أجواء اللقاء الفريد بين عمالقة الرابطة القلمية 

الهرب من مجازر وأهوال الحرب العالميّة الأولى وما خلفته من فقر جمع جبران ونعيمة وأمين الريحاني وأيوب ثابت ورشيد أيوب ونسيب عريضة وإيليا أبو ماضي وغيرهم من الأدباء المهاجرين إلى أميركا في رابطة واحدة أسّسها هؤلاء وسمّيت باسم الرّابطة القلميّةوقد تفككت بموت جبران سنة 1932.

كان هدفهم نشل الأدب العربي من وهدة الخمول والتقليد إلى حيث يصبح قوة فعالة في حياة الأمة متعمقين في الوعي الإنساني لتأصيل الصلة بين الفن والحياة ليكون مرآة لها.

ومنها شكل هؤلاء لجنة إغاثة لإرسال المساعدات إلى أبناء الوطن المنكوبين، وهنا عبّر جبران بكلّ صراحة عن تعلّقه بسوريا كوطن يضمّ لبنان حيث نشأ. فقد جاهد في سبيل القضيّة القوميّة فكتب لماري هاسكل عام 1912:” أنا لست وطنيًّا.. غير أنّ فؤادي يكتوي من أجل سورية، لقد كانت الأقدار قاسية عليها إلى أبلغ حدّ..”.وكأنّه ناقم على السياسة وبنفس الوقت محبّ لهذا الوطن! وأشدّ نقماته كانت على تركيا في قوله لماري:” إنّ هذا الطعم المرّ في فمي، يجعلني أحسّ كأنّني ابتلعت تركيا”.

أمّا ميخائيل نعيمة فقد مجّد العروبة واللغة العربيّة وفصلها عن القوميّة العربيّة الّتي تحمل برأيه في طيّاتها نوعا من الفكر الفاشي الانغلاقي على عكس العروبة التي هي فكر منفتح على العالم يتكيّف مع الآخر وينهل من ثقافة عريقة لا يمكن أن تتضافر مع مبدأ الكراهية الذي يطبع عادة كل القوميّات. وقد ظهرت آراؤه واضحة في هذا المجال في أعظم كتب السيرة “سبعون” وفيها حورب كثيرا ولم ينل الشهرة التي يستحق.

كتاب النبي أودى بصاحبه في مجاهل القنوط!

إذا تكلمنا عن “مردادنعيمة، لا بدّ أن نضيء على “نبيّجبران، هذا الكتاب الّذي شكّل حلما بالنسبة لشاعر القطرين، حلما بكتابة سفر روحي على غرار الكتب المقدّسة، يهدي الّذين جرفهم التيّار المادّي إلى الصّراط القويم على حدّ تعبير الدّكتور “جميل جبر”.

لا بدّ من الإشارة هنا إلى الحالة النّفسيّة السّيّئة الّتي آل إليها جبران في هذه المرحلة بالذّات، وكان يداويها بشرب الكحول، ثمّ بالابتعاد عن نيويورك، عن ماري هاسكل وعن أخته ماريانا! كان رجل التّناقضات، تلك التّناقضات الّتي جعلته على حدّ تعبير “روبين ووترفيلد” يشعر بالنّفاق في ذاته، فالحياة الّتي عاشها هذا الأمير الشّرقيّ كانت تناقض ظهوره كرجل مقدّس!

إذًا بالعودة إلى كتاب “النّبيّ” الّذي خطّه جبران  بالإنكليزيّة وكانت تنقّحه المدرّسة والصّديقة والحبيبة ماري هاسكل عبر رسائل متبادلة، أنهك صاحبه تماما قبل أن يخرج للنّور، إذ قضى يوميًّا 14 ساعة متواصلة من الكتابة دون توقّف ممّا أدّى إلى إصابة جبران بمرض عصبيّ جعله ينقطع عن الطّعام ويستسلم للقنوط.

اعتبرت ماري هاسكل كتاب النّبي من كنوز الأدب الإنكليزي، وحظي بشهرة واسعة نظرا لسلاسته، وقد بدا كأنّه كتاب مواعظ، فيه يلتفّ النّاس حول بطله (المصطفى) يطلبون كلمات أخيرة تلهمهم قبل مغادرته عبر باخرة ستعيده إلى مسقط رأسه بعد 12 عام من الهجرة وهي نفس المدّة التي قضاها جبران في نيويورك بعيدا عن الوطن.

“بيد أنّني لا أستطيع أن ابطئ في سفري

فإنّ البحر الّذي يدعو كلّ الأشياء إليه يستدعيني فيجب عليّ أن اركب سفينتي وأسير

 في الحال إلى قلبه.”

بدا كتاب النبي كتابا دينيا يرنو إلى المطلق، نبت من فكر رجل آمن أنّه ” تبخّر في الهواء كقطرة ندى صعدت للسحاب، ثمّ نزلت كالمطر.” على حدّ قوله.كما أنه رجل مسيحيّ مطّلع على الكتب المقدّسة لدى البوذيّين والمسلمين وفوق ذلك الإنجيل.فكان كتاب النّبي “كتوليفة من هذه الكتب على شكل خليط يشبه حساء متجانسا ودافئا يستسيغه قراء القرن العشرين التّوّاقين إلى الطّمأنينة التي يوفرها الدين وبنفس الوقت لا يرغبون في الانصياع لأوامر كنيسة أو جامع أو رجل دين يملي عليهم ما يفعلونه وما لا يفعلونه!” على حد تعبير “جوان أكوسيلا”.

ومن أهمّ عناصر نجاح الكتاب وترويجه أنه جاء قصيرا (96 صفحة) في طبعته الأصليّة، وجاء في أجزاء صغير غير متّصلة تمكّن القارئ من اختيار الجزء الأحبّ!

 

نشأة جبران خليل جبران وميخائيل نعيمة ورحلتهما الثّقافية البكر

 جبران خليل جبران سوري الأصل نزح أجداده من دمشق إلى لبنان، تحديدا بشري، عاش حياة متواضعة لأب فقير،عمل كسائر سكان قريته في تربية المواشي،أمّه لعبت دورا أساسيا في شخصيته . 

وقد نمّت مواهبه في الرسم وعرّفته على القصص العربية المشهورة :الف ليلة وليلة وأشعار أبي نوّاس، تعلّم جبران خليل جبران العربيّة والسريانية والفرنسية في مدرسة (أليشاع) ثمّ انتقل إلى بوسطن،قضى فيها ثلاث سنوات، وعاد إلى لبنان بعدها حيث أتقن العربيّة.

 وبعيد وفاة أمه وأخيه رجع إلى بوسطن من جديد، فنشأ في أميركا رسّامًا وشاعرا وكاتبا ذي نزعة صوفية فلسفية، قرأ لكثيرين منهم “نيتشه، شكسبير،بليك كيتش الشّاعر الرّومنسي وغيرهم  متأثرا بفلسفة أفلاطون وأساطير اليونان والكلدان والمصريين”.

بدأ  جبران رحلته الأدبية عبر كتابة المقالات، تخلّلها تعلّمه أصول الرّسم في باريس، وإقامته عدّة معارض ناجحة فصديقه ميخائيل نعيمة يعتبره رسّاما بالدّرجة الأولى.

من أبرز مؤلّفات جبران:” يسوع ابن الإنسان- المجنون- رمل وزبد- النّبي وقد ذكرناه- حديقة النبي- التائه وغيرها وهي كلّها باللغة الإنكليزية. ومن مؤلّفاته في اللغة العربيّة:” الأجنحة المتكسّرة- الأرواح المتمرّدة- العواصف .. وغيرها إضافة إلى العديد من الأشعار والمسرحيّات” .

 ميخائيل نعيمة ولد ونشأ في قرية الشّخروب قرب بسكنتا في جبل صنين، حيث ترعرع في طبيعتها السّاحرة وأحبّ العزلة والتأمّل، إذ كان ينعزل في مكان ما قريب من الشلال يفكر في كتابة مؤلفاته الكثيرة وفلسفته حول الانسجام بين “ الطبيعة والإنسان والله“.

درس ميخائيل في بسكنتا ثم تابع دراسته الجامعية في روسيا وبعدها هاجر إلى أميركا حيث قضى عشرين عاما مع أخيه نجيب.

كان نعيمة متفوقا في مدرسة المعلمين الروسية في مدينة الناصرة الفلسطينية فحصل على بعثة علمية في جامعة بولتافا الأوكرانية حيث تمعّن في الأدب الرّوسي وأتقن هذه اللغة ولم تكن إقامته طويلة فيها إذ تابع دراسته في جامعة واشنطن في الحقوق والآداب وحصل على شهادتين في كلا التخصصين. 

تجنّد في العسكرية التابعة للواء الأميركي وشارك في الحرب على فرنسا، واستغل إقامته الطويلة فيها وفي باريس تحديدا حيث درس تاريخ الفنون وأتقن اللغة الفرنسية.

وعاد بعد انتهاء الحرب إلى نيويورك حيث التقى جبران وأصدقاء الرابطة القلميّة.لكنه سرعان ما عاد للبنان بعد وفاة جبران مستئنفا مسيرته الأدبية ونظم الشعروعاش بقية أيامه فيه حتى وافته المنية.

وقد عرضنا أبرز مؤلّفاته في مطلع المقال.

نستنتج أنّ الرّجلين عاشا حياة الرّيف الجميل وسُحرا بجماله وتقاسما الغربة، وبينما كان نعيمة متدرجا في تحصيل الدراسات وخوض غمارالتجنيد الإجباري وهو الحاصل على الجنسية الأميركية، مكبا على التأليف والتأمل.

 كان جبران  “النابغة بالفطرة”على حد تعبير الناشر والمصوّر ” فريد هولاند داي” الذي لاحظ موهبته في مجال الفنّ والتصوير مكبّا على الرسم متأرجحا بين شعور القهر بمرض الأحبّة وفقدهم وذكريات الفقر والتشرد بعد سجن والده بتهمة الاختلاس وبين شعور آخر وهو ذلك التقديس لشخصه ومواهبه الذي لاقاه في بلاد الاغتراب! ولكنه رفض الحصول على الجنسية الأميركية رغم حياته الطويلة هناك ومحبّته لثقافة الغرب.

وقد ضمّن وصيّته مبلغا ماليا لتطوير لبنان كي لا يضطر أبناء بلده إلى الهجرة مرغمين! وهنا تظهر المثالية المفرطة عنده.

لوحة لجبران


المرأة في أدب جبران خليل جبران والحبّ في أدب ميخائيل نعيمة 

كلا الرّجلين بقي عازبا حتى مماته أمّا عن علاقتهما بالحبّ والمرأة فأقول:

جبرانلم يبق بلا امرأة أبدا وقد كانت عدّة نساء تجاذبن قلبه وعقله وروحه ووجدانه، وقد صرّح بذلك في كتاباته ورسائله.

المرأة في أدب جبران خليل جبران:

يقول:” أنا مديون بكل ما هو أنا إلى المرأة، منذ كنت طفلا حتى الساعة والمرأة تفتح النوافذ في بصري والأبواب في روحي. ولولا المرأة الأم والمرأة الشقيقة والمرأة الصديقة لبقيتى هاجعا مع هؤلاء النائمين الذين ينشدون سكينة العالم بغطيطهم.”

لا يخفى علينا أيّ دور لعبته كاملة رحمةالأم المثقفة القويّة التي عوّضت عن غياب الأب الّذي جرفته الفاقة إلى سجون التّهور لسدّ عوز الأسرة، وقد تابعت المدرّسة ماري هسكل دور الأم والحبيبة في آن معا، فقد غمرته بعطفها وكرمها فكان بالنسبة لها الحبيب الأجمل وكانت بالنسبة له السند والحنان.

 وقد كرّر طلب الزواج منها أكثر من مرّة فرفضت بسبب فارق السن بينهما وهي التي تكبره بعشر سنوات ، ولكن تلك المرأة الملهمة كانت ذكية كفاية لتدرك أن حب جبران لها هو صداقة ملهمة وعرفان جميل أكثر منه عشق حقيقي حسب رأيي. 

لكنّه اعتبرها على الدوام الحبيبة الأبدية التي تشبهه في الجوهر على حد تعبيره، واستمرت مراسلتهما حتى بعد زواجها  وفاءً لصداقة لا تمحوها الظروف.

وبنفس الوقت كان جبران يراسل الأديبة مي زيادة لمدة عشرين سنة، دون أن يلتقيا قطّ! وقد انتظرت مي اثنتا عشر سنة قبل أن تعترف لجبران بحبّها،كانت علاقة غرامية استثنائية بكل المقاييس، شكلت نموذجا للحب العذري أو الصوفي الذي يصعب احتذاؤه بالنسبة لأي ثنائي آخر إلا في ما ندر.

ولم تكن ماري ومي وحدهما من تقاسمهما قلب جبران، فقد خلّدت رسائله العديد من النّساء اللواتي عشقنه مثل الشاعرة جوزفين بيبودي، والكاتبة شارلوت تلر،والمدرّسة ميشلين التي تاه في جمالها، وكانت جرتورد باري الموسيقية وعازفة البيانو  أكثر النساء غموضا في حياة جبران.

أمّا ميخائيل نعيمة فقد  أفرد في “سبعون” جانبا آخر من شخصيّته لم يظهر للعلن، فقد استوحى من علاقته العابرة  مع “بيلا” خاطرة قال فيها:”قل رأينا طهارة وجمالا لا فسادا في صنع رب السماء..فأبحنا للنفس كل مناها”… 

وذكر في سيرته علاقاته بنساء كثيرات ربطته بهنّ إمّا علاقات عابرة أو تركن في قلبه أثرا مهما.فبدأ يشرح عن عفافه فترة الصّبا وصولا لبداية علاقاته الغرامية مع بيلا أولا وفاريا الروسية ثانيا والتي أغرته على حسب قوله ولم يستطع مقاومتها، ولكنه عجز عن الارتباط بها لأسباب قاهرة.

عاش قصة حب أخرى مع مي حداد لكنه لم يتزوجها وعاش بقية حياته راهبا ناسكا.

إذا كلاهما أحبّ ولم يتزوج، إلا أنّ المرأة كانت أكثر حضورا وتأثيرا في أدب جبران كما في حياته.

 

التمرد الرومنسي في أسلوب جبران خليل جبران والواقعية الفكرية في أسلوب ميخائيل نعيمة:

 أسلوب جبران الكتابييجمع بين القوة والتمرد والدعوة للحرية وحب الاستمتاع بالحياة وتقصي الأهواء، فهو يهدم ليعاود البناء.

اتّبع الأسلوب القصصي التأملي، الرمزي، الغني بالصور الفنية الجميلة، نصه غني دوما بموسيقى عذبة تتأتى من تكرار لفظ وعبارات معينة، يسوقها ببراعة، هو واقعي ورومنسي في آن، فقد طرح قضايا المجتمع (ظلم المجتمع للمرأة- ورجال الدين المستترين باسم الدين- والثورة على الحكم القائم..) 

ولكن كل ذلك برومنسية فائقة تجلت في تمجيده للطبيعة التي تقمّص ظواهرها وناجاها كالليل والقمر والبحر.. مع مسحة من الأنين والألم الدائم ظهرت ملامحها في أدبه. كما احتفل في كتاباته بالأساطير والرموز والخيال وعالم السحر.

فكان أسلوبه محبّبا سهلا ممتنعا،عميقا، يتناسب مع هموم وتطلعات الأجيال التي تذوقت من فنه حلاوة الحرية، فنّ ذو صلة بكل الفنون التي أجادها،فلوحاته الأدبية هي رسوم مجسّدة وأنغام رقراقة تنساب على وقع جدول هنا وحفيف أوراق هناك،فاستحدث بهذا مدرسة بيانية جديدة في اللغة أثّرت بشدّة على الأدب العربي في أنّها تخاطب الحواسّ وتطرب الآذان وتغذّي العقول وتبهرها بأسلوبها الساحر العجيب.

 وقد راج نتاجه الأدبي ونال  تلك الشهرة العالمية جراء تأليفه باللغة الإنكليزية وترجمته بعد ذلك إلى اللغة العربية ولغات أخرى.

 أسلوب ميخائيل نعيمة الكتابي يتميّز بتصويره الواقع والأحداث بعيدا جدا عن الزخارف اللفظية والإسهاب الزائد الذي لا معنى له.

وأقول أنّك تستشفّ من كلّ كلمة في كتابه العجيب “مرداد” ضوءًا يبلغ الروح قبل أن يترجمه الفكر لما تحمله كلماته من مضامين قويّة تفوق بنية التركيب العادي، فأسلوبه فيه عصيّ على الأفهام السّطحيّة، يحتاج القارئ فيها إلى سفر تأمّلي بغية إدراك الومضة السّحرية.

استفاد من دراساته الغربية والشرقية الغنية في تطوير القصة القصيرة، محاولا كتابة السيرة الذاتية في “سبعون” والسيرة الغيرية في ” جبران خليل جبران” ووضع أصول النقد في “الغربال”  ولمس في أدبه (الطبقة الكادحة المهمشة) وكتب عدة قصص مثل “أبو بطة” مصورا حياة العمال والمشردين والغرباء، ودعا أن يكون الأديب “رسولا” في أمّة.

التزم صدق التصوير في كتاباته وابتعد عن المبالغة فجاءت قصصه أقرب إلى الصدق النفسي والفني في آن.وقد جدّد كصديقه جبران في استعمال الألفاظ والأساليب فاقتربت لغته من لغة العوام إلا في “مرداد

ينزع أسلوبه كجبران إلى الصّوفيّة، بساطة العيش، ونقاء النفس ويعود ذلك لدراسته العميقة للديانات المختلفة سماوية وغير سماوية.

أسلوبه بسيط وواضح، وصريح أيضا. لديه ميل جلي إلى الإقناع والمجادلة العقلية السهلة، وهنا يختلف عن جبران الذي لمّح بالقصّة والخيال وابتعد عن الجدال.

يميل أسلوبه إلى التفاؤل والتّبشير بالخير والحبّ والجمال عكس صديقه هنا أيضا، فجبران كان متشائما خاصة بعد أن بهرته المدنية الغربية فقلّ احتفاله بموروثه الثقافي والاجتماعي حاملا فأسه على رجال السياسة والدين.

 

 نستنتج أنّ كلا من جبران ونعيمة حدّث في الأدب العربيّ ليصبح سلسا موسيقيا هادفا يعبر عن الواقع بانسجام مع روعة الطبيعة القروية التي حضنت الرجلين في بلاد الشام آنذاك وتحديدا في ربوع لبنان.

 

إلا أن القارئ يلاحظ في جبران ميلا ونزعة مبالغة للرومنسية التي تحمل عبق التشاؤم وروائح الحب التي يذلل عطرها كل الصعاب لينتصر الحب هذا مرة أمام مذبح ومرة أمام حضرة الموت العظيم، هذا الحب القاهر الذي يعصف في مواكب الدهور ويجنح بلا أي تفكير بعواقب وخيمة متكسّرا على أفنان الحقيقة المُرّة التي تهزأ بكل قانون بشري وعُرف توارثته الأجيال، ليأتي جبران النبي ويخط آخر حكايات القهر من بعيد…

باعثا بوصايا لأبناء شرّدهم المحتلّ وجرّدهم من عناق الأرض الأمّ.

 

كما يُلاحظ في ميخائيل ميلا ونزعة عقلية تحمل روح الفكر والتفاؤل بإنسان هو إله في القمط، أمامه مسير طويل عليه أن يسلكه نافضا عنه أسماله، طارحا ظلاله، متقبلا لمصيره، حاضنا لعيوبه، كيما يخترق بها حجب الآخر ويصل إلى حضرة الأنا التي تختلف كل الاختلاف عن الأنا النّرجسية المريضة. فأنات نعيمة هي الله، والانسان المتغلب على ذاته، الذي تدرج من النبات،للحيوان، للإنسان، وصولا إلى المرتبة العليا، بعد تجاوز تلك الأبعاد في نظرة شاملة لا حدود لشموليتها.

فجبران يخاطب النفس والقلب ويدغدغ تلك العاطفة التي تجنح للحب المثالي الرومنسيّ المنسجم مع ألوان الطبيعة وموسيقاها في جلسة تأملية مريحة تمتّع الحواسّ.

أمّا نعيمة فيخاطب العقل والروح القدسية لتثمل كل حاسة من حواسك في حضرة الواحد الأقدس الذي لا يرى عيبا إلا وهو درجة للوصول، ولا يلمح تقصيرا إلا وهو سكّينا تجرح تلك الدنايا كما نجرّح خدّ الثّمر لينضح بعدها بألوانه  ونكهاته القوية القانية الشّهيّة.

 مع جبران أنت سائح في دنيا من السحر والأحلام

ومع نعيمة أنت سائح في دنياك الحقّة بكلّ صورها الجميلة والقبيحة  

مع جبران أنت تعصي لأجل الحبّ

ومع نعيمة أنت تحبّ حتّى ذلك العصيان لأنّه ما هو إلا مرآتك التي كشفت خفاياك.

 

خاتمة ورؤية ثاقبة في أعماق المحيطين

من المتعب بمكان أن تخوض غمار محيطين معا لتغرف بعضا من الكنوز المخبئة في قاعيهما.

ومن الجميل بمكان ان تتجرأ في مسعاك وتأمل أن تحمل صنّارتك ما تشتهيه حواسّك وأهمّها حاسّة التّذوّق الأدبيّ.

فتقف شاكرا تلك التجربة على مدّك بتلك اللمحات الجميلة من تاريخ مضى ولا تزال آثاره قائمة، لترى انعكاس الفكر العربيّ الّذي ترعرع في بلاد الشّام الممتدة على ساحل المتوسّط صاحب الغنج والدلال.. على امتداد سوريا الحبيبة، وفلسطين الأبية ولبنان الجميل..

انعكاس جذاب وممتع بل خلّاق في جعلك تتذوّق الأحلام والطموحات والرّؤى الإنسانية الشاملة ليس لوطن فحسب، بل لعالم إنسانيّ واحد تحكمه قوانين المحبة وتعيش فيه أعرق الديانات في وئام تام دون تقاتل، دون تنابذ، كأنها توليفة موسيقية تشبه إلى حد بعيد سرب الطيور، ومسكبات الورد، ومسير الساقية نحو البحر من  أمّها الغيمة، كلها تقدّس الله الإنسان في كلمة واحدة يتقاسمها ثالوث أقدس بين الله والإنسان والروح القدس.

من منا لا ينجذب إلى تلك العالمية الجبرانية النعيمية الرائعة في انسجامها بيت الحسّ والرّوح وفي تقمّصها الدائم لكلّ مظهر في معزوفة لا تنتهي ما دام ليل ونهار …ما دامت شمس وقمر.

 

إهداء وآراء قيّمة على لسان أصدقاء مساحة وعي 

أهدي بحثي المتواضع وعملي البسيط الذي ما رفعه إلا عظمة هذين الأديبين، إلى الصديق الذي أهداني كتاب “مرداد” فكان بالنسبة لي نقلة نوعية في عالم فكري، وفلكا نقلني من عالم الإمكان إلى عالم الوجود، ومن حلم الوصول إلى الدرجات الأولى من سلّم المعرفة الرفيع. الصديق علي.

وقد أجابني عندما سألته عن رأيه بالأديبين فقال: جبران و ميخائيل رسل النور بعد ان أظلمت الديانات بالتحريف و السياسة .قمة الادب و البلاغة

ميخائيل قصة رهبنة حقيقية فيلسوف لا يرقى الى صفه كل من مر من ادباء وفلاسفة و مفكرين شرقيين وغربيين ،اوشو الذي قرأ كتبا كثيرة من مكتبته التي تحوي 150 ألف قال كتاب مرداد هو الاثمن في العالم و يحوي اسرار عظيمة…

جبران قصة انسان حقيقي عاشق و مفكر حقيقي كان ثائر ضد الكنيسة ايضا و هذا يدل على فهم حقيقي ،لكن وقع في فخ الحب و سخف الحب ليكون حصرا  بين رجل و امراة في حين ان ميخائيل عرف الحب و المحبة الحقيقية غير المرتبطين بالجنس الاخر …كانا اصدقاء بالحياة الواقعية رغم بعد المسافات .

جبران يحمل  قليلا من  تطرف موجود عند الادباء الروس وهو متاثر فيهم اكثر من ميخائيل الذي كتب بالروسي الى جانب الانكليزية.

كلاهما عظيم أعظم من كل الرسالات الحزبية في الشرق الاوسط

ميخائيل معروف لدى العرب انه فيلسوف ومفكر اكثر من اديب كاتب

جبران عرف كيف  يسوّق نفسه ،ميخائيل لم يكن مهتما ،لكن يبقى كلاهما رسل الوعي ،قدسا الرسل من الديانات و عرفا التطرف و فصلاه.

هؤلاء حراس النور لكن العرب قتلوهم كما قتلوا محمد و عيسى

وانا أرى رسالة ميخائيل اهم من رسالات الاديان لانها قابلة للفهم نسبيا لدى الشعب المنكوب في حين ان الرسالات السماوية صعبة الفهم للعامة التي تعودت على السطحيات.

قرأت كل كتب المعلم الناسك نعيمة لكن جبران اثار فيي الملل قليلا، فانا شخصيا اقول ان جبران اديب ثم مفكر ثم فيلسوف ،حين ان ميخائيل هو فيلسوف مفكر ناسك عابد ثم اديب كآخر صفة .

أشعر بالانزعاج عندما يضع الناس كلاهما في نفس الصف لكن اغلب ممن يقارن بينهما لم يقرأ مرداد الذي يحوي فحوى إكسير الحياة.”

وصديقنا في مساحة وعي الأستاذ محمّد أجاب أيضا على سؤالي فقال

: ميخائيل عنده واقعية أو دعونا نقول احساس اقل إرهافا، أما  جبران فعنده الصور الشعرية تعتمد على خيال المشاعر أكثر من الحسية التي عند ميخائيل.

جبران لا يقبل بأنصاف الحلول. يعني متطرف بحلوله، إما ان تكون أو لا

تكون وكمثال على ذلك:

“لا تجالس أنصاف العشاق، ولا تصادق أنصاف الأصدقاء، لا تقرأ لأنصاف الموهوبين،لا تعش نصف حياة، ولا تمت نصف موت،لا تختر نصف حل، ولا تقف في منتصف الحقيقة، لا تحلم نصف حلم، ولا تتعلق بنصف أمل،

إذا صمتّ.. فاصمت حتى النهاية، وإذا تكلمت.. فتكلّم حتى النهاية، لا تصمت كي تتكلم، ولا تتكلم كي تصمت.

إذا رضيت فعبّر عن رضاك، لا تصطنع نصف رضا، وإذا رفضت.. فعبّر عن رفضك، لأن نصف الرفض قبول.. النصف هو حياة لم تعشها، وهو كلمة لم تقلها،وهو ابتسامة أجّلتها، وهو حب لم تصل إليه، وهو صداقة لم تعرفها..

النصف هو ما يجعلك غريباً عن أقرب الناس إليك، وهو ما يجعل أقرب الناس إليك غرباء عنك.

النصف هو أن تصل وأن لاتصل، أن تعمل وأن لا تعمل،أن تغيب وأن تحضر.. النصف هو أنت، عندما لا تكون أنت.. لأنك لم تعرف من أنت، النصف هو أن لا تعرف من أنت..

ومن تحب ليس نصفك الآخر.. هو أنت في مكان آخر في الوقت نفسه.

نصف شربة لن تروي ظمأك، ونصف وجبة لن تشبع جوعك،نصف طريق لن يوصلك إلى أي مكان، ونصف فكرة لن تعطي لك نتيجة النصف هو لحظة عجزك وأنت لست بعاجز.. لأنك لست نصف إنسان.

أنت إنسان وجدت كي تعيش الحياة، وليس كي تعيش نصف حياة ليست حقيقة الإنسان بما يظهره لك.. بل بما لا يستطيع أن يظهره، لذلك.. إذا أردت أن تعرفه فلا تصغي إلى ما يقوله .. بل إلى ما لا يقوله.”

كتاب مسموع مرداد منارة وميناء ( قراءة أربعة أجزاء بصوت علي هديّة من  مساحة وعي)

:الجزء الأوّل

:الجزء الثّاني



:الجزء الثّالث

:الجزء الرّابع

هذا ما قالته الكتب، هذا ما عكسه جبران خليل جبران وميخائيل نعيمة خاصة في “مرداد” و”النبي”  اللّذان بقي صداهما النبوي يتردد إلى الآن.

هذا ما عبّر عنه أصدقاء مساحة وعي المنفتحين على عالم الثقافة والتأمّل الفسيح..

وأنتم كيف ترون جبران ونعيمة وأيهما أثّر في عقولكم ونفوسكم وكيف  حلّقت معهم أرواحكم؟ أعبر فلك مرداد، أم من خلال محبّة جبران المجنّحة عبر الخيال الساحر؟

مساحة وعي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *