غيث

قصة قصير

من أروع القصص التي خلدتها الذاكرة قصص آبائنا وأجدادنا.. قصص الأمهات والجدات اللواتي سمعنها بدورهن من عوائلهن وتوارثتها الأجيال عبر الأزمان عن طريق الحكاية والسّماع..
واخترت لكم اليوم منها قصة سمعتها بدوري على لسان أبناء قريتي التي كانت قرية في ما مضى قبل أن يتوسع عمرانها لتصبح اليوم بلدة هي ابنة المدن وخليلتها في المباني والسكن ودور العلم وأسواق التجارة ..
لعلني إذ أسردها اليوم لكم تعيدني وتعيدكم إلى تاريخ الأقدمين وتنقل لنا حكمتهم بلسان الطرافة ، وبفن مسرحي جميل ينقل لنا مشاهد مثيرة ، لحقائق حصلت بالفعل ..
فهيا بنا نستمع لها مع الكثير من المتعة والإفادة

قصة اليوم لا حاجة لها بعنوان
يكفي أن يكون لغزها
كله بيان وتبيان
حين تفك لغز الرسالة { دخل المخربش إلى المدينة وعلى ظهره الكنز الثمين ، فإن لم تلحقه بالجزيرة سيحرق السد الطويل }
أفهمتم مكنون الرسالة ؟ أشك في ذلك..


إذًا اسمعوا ما تقوله الحكاية :

في قرية هادئة وديعة يعيش سكانها في أمان، يعتاشون على زراعة الحقول وتربية المواشي والأغنام، يتشاركون في أمورهم بتواضع وطيبة ، لا وجود في أحاديثهم للباطل والغيبة ، وحين يعصى عليهم أي أمر جلَل ، يقصدون شيخا لهم يتصف بالعلم والوجل
لم تسمح لهم ظروف حياتهم الصعبة وضيق الحال، ان يلجأوا لطلب العلم والمعرفة ولم يخطر لهم ذلك في بال.. فطالما شيخهم يسوسهم بعلمه الثمين ، ويُذهب مخاطر الجهالة بخبرته الطويلة ، لم يشعروا ان هناك اي داع ليقصدوا البلاد ويحصّلوا المراتب والشهادات.
وكان الشيخ إذاك مسرورا بخدمتهم ، لا يطلب منهم أية أجرة أو مال، فهو الكريم صاحب الخلق الرفيع ، المخضرم بالحكمة، لديه كل الحلول ، مهما تعقدت المشاكل وأطارت العقول…
يستقبل وزوجه الحنون السائلين كل صبح ومساء
لم يتأفف يوما منهم او يصيبه العياء…
واستمر كذلك زمنا طويلا …
وجاء ذات يوم ابن غياث من السفر يحمل الحقائب الثقيلة مملوءة بالكتب والقراطيس التي تحوي
من العلم الغالي و النفيس
راح اهل القرية يبحثون عن صحة الخبر
أبيننا مجتهد سيغير القدر؟
وحسم غياث هذا الجدال
بأن ابنه غيث قد عاد بالفعل بعد زمن ليس بقليل
وقد أدرك من العلم والبحث ما يفوق كل علم يملكه الشيخ الجليل
وأذاع بفخر في القرية وكل الجوار أن غيثا حاضرٌ للعلم والمشورة بعد أن غدا أول من يفك الحرف ويدون في النحو والصرف.

تناهى الخبر لمسمع شيخنا الممتاز..

ورغم ما يتمتع به من حلم وملاحة في الطبع والأخلاق، تسربت لقلبه الغيرة والحسد واضرمت في قلبه النار ، فأصابه الكمد.
لكنه صمت على كل حال…
وكأنه لم يعرف بأمر غيث وفرحة أبيه ، واحتفاء أهل القرية بوصول معاليه.
وفي صباح اليوم التالي ، أعلن بصوت رخيم ينم عن هدوء طبعه الأصيل :
أنه يدعو كل القرية إلى اجتماع وعلى رأسهم غيث ليفحص ما درسه من علم ، وذلك بإجابته على كل سؤال..
ائتمر الجميع لطلبه ، وحضروا وقت المساء لباحة الدار الفسيحة .
قال :
تقدم يا غيث .. مبارك لك يا بني ما جنيت من ثمار التعب..
هيا أجبني عن أربعة أسئلة بسيطة لا تعصى على من زار تلك البسيطة.
فأجابه غيث بتواضع واحترام:
انا جاهز يا كبيرنا لأي طلب
سأجيب عن كل ما تشاء
متمنيا أن تكون إجابتي لأهلنا ولكم خير الشفاء

اعتدل الشيخ الكبير في جلسته بثقة عالية وعلى يمينه تقعد زوجه الغالية ، فأطرد يسأل السؤال الأول:


أخبرني يا غيث وأخبر الجميع ما معنى ( هر ) أيها العالم الصغير ؟
تعجب غيث من بساطة المطلوب وأسرع يقول : هو قط أو سنور وبالعامية يقول الناس ( بسين)
فضحك الشيخ باستهزاء ومعه كل الناس كأنهم الببغاء.
ازداد تعجب عالِمنا غيث حين ضحك الجميع وقال :
ما هو الهرّ إذا ياصاحب العلوم والأخبار؟
أجاب الشيخ دون تفكير بالطبع هو ( المخربش) أيها الصغير.
ابتلع غيث تلك الإهانة ، وخاصّة حينما اجمع القوم على كلام الشيخ الغريب، فآثر السكوت ليتجنب الندامة.
وأكمل الشيخ بالسؤال الثاني : ما هي ( النار ) يا غلامي؟
تعجب غيث من غرابة هذا السؤال وشعر ان الشيخ الكبير إما فقد عقله ، او هو يدبر له مكيدة ، فتبسم في سرّه وقال : ( أمري لله عساه يخلصني من هذي المصيبة)

النار يا شيخنا هي: النور والحرارة ،ضوء وتصدر الشرارة ، ليس لها في المعاجم التي درستها اي رديف وقبل ان يكمل غيث بحجته البليغة ، قاطعه العجوز باحتيال مخيف :
كلها إجابات لا تشفي ولا تفيد
في المعجم النار هي الكنز الثمين!
حبس غيث ضحكته في حلقه وبات جازما ان غريمه ليس بهين، وقد قرر ان يسحقه امام الجميع
وضج الناس كلهم بالضحك الكثير وهم يغمغمون:” انه صبي جاهل يدعي الثقافة ، اسمعوا أقواله، كلها بساطة وسخافة…”

أسكتهم شيخهم بإيماءة صغيرة
فسكتت في برهة الجموع الغفيرة
همس ابو غياث في اذن ولده كلمتين
فقال له : لا تخف يا والدي
ثق بابنك كل الثقة
ما زرعته سيثمر ولو تاخر هطول الغيث
فارتاح قلب الوالد وعاد لمقعده مطمئنا ، وأغلق سمعه عن كل الثرثرات وعقد في نفسه الصبر على كل ما يحصل من ترهات.
وراح يسمع مع هؤلاء المساكين سؤال شيخهم وهو ما قبل الاخير :
اخبرني يا غيث الآن ما هو ( الماء ) ؟
فابتسم الشاب بحنكة ودهاء: الماء في المعجم يا شيخ هو البركة ،النهر ، البحر والمحيط او مثلي هو غيث ينزل من الغيم.
فارتج الشيخ بضحكة مسمومة ، وتبعه قومه دون تفكير وقال بعُجُب خطير :
الماء يا ابني هو الجزيرة..
فهز غيث رأسه مدركا نوايا هذا الحكيم الذي بدا أمامه كالجاهل اللئيم…

وهذه المرة تكلم غيث اولا:
ايا شيخنا العالم أسمعني سؤالك الاخير
فوالله قد اتحفتنا بعلمك الوفير

نفخ الشيخ صدره بحبور لأنه تاكد انه لم يغادر ولن يغادر مقامه العالي.
وأردف: أجبني ما هو ( المقعد ) يا أيها الغالي؟
نظر الناس كلهم لمقاعدهم بنظرة سريعه
وانطلت عليهم تلك الخديعة
توجهوا كلهم بآذان صاغية ليسمعوا من الشيخ بعد تعثر غيث كالعادة الإجابة الوافية…
قال غيث وهو يلفظ آخر الكلمات
بقوة وعزم وثبات:
المقعد يا شيخنا هو الكرسي والكنبة
فيا مولانا أتحفنا بجوابك لننهي الجلبة
أضمر الشيخ انزعاجه برفعة وقال:
المقعد هو السد الطويل
وبعد هذا الاختبار أعلن أمامكم ان ولدنا غيث
ما زال في بداية الطريق فلندعُ له جميعنا بالجد والتوفيق

شكر الناس الله انه أمدهم برجل مثل شيخهم العالم
متواضع ، محبوب ، ليس بصارم
إستمع بحكمة لغيث الأرعن والمدعي ولم يهنه بل دعا له بالخير ولم يتصرف كما يفعل الكبار كالعادة من اساليب الصلافة والقيادة.

انصرف الجموع سعداء ، ولم يلحظوا خطورة البلاهة التي أصابت عقولهم ، فركنوا لبيوتهم آمنين ، راضين.

مرت شهور وشهور …
ونسي كل اهل القرية غيث وغياث
وما حدث لهما امام الناس
فما كان من غيث المفجوع من ظلم اهل القرية إلا ان ارسل هرا وقد ثبت على ظهر الهر مشعلا من نار … والشيخ لم يكن في داخل الديار

راى الناس بيت شيخهم يحترق ، فاسرعوا يستنجدون ،: لا احد في قريتنا يستطيع ان يحرر رسالة سوى غيث.. فارسلوا إليه يكتب للشيخ حالا .حالا..

أسرع غيث ملبيا الطلب ، وحرر رسالة…

احترق بيت الشيخ ولمّا يعد رغم وصول الرسالة

وبعد ساعات قليلة… وقف أمام بيته الذي صار ركاما

لماذا لم تاتِ يا شيخنا ؟ ..صاح الجميع

وكيف تراني أعرف ما حصل ؟ من أضرم بيتي ؟ من هكذا فعل؟؟

شيخنا…

ألم تقرا الرسالة ؟

أية رسالة ؟ أتقصدون هذا الكلام الغريب؟

وراح يقرأ بغصة فحوى ما كان غيث قد كتب:
(دخل المخربش إلى البيت وعلى ظهره الكنز الثمين ، فإن لم تلحقه بالجزيرة سيحرق السد الطويل)

راح الشيخ يقلب الرسالة وهو يضحك ويبكي معا :
من الجاهل الذي كتب هذا العجب العجاب!!
وما دخل النار بهذا الخطاب؟
علِم القوم انه كاد لهم
فهو من سنّ المعاني
وينكر الآن ما قد علمهم من البيانِ

Details

لأنهم يدركون في أعماقهم ما قد اخترعه من الجهل
ولكنهم أصروا على تصديقه كما فعل الأُوَل

راحوا لغيث يطلبون السماح
وهو بعدهم مطأطئ الرأس يقول:
سامحني يا غيث لقد أغراني العز المديد وقلب عقلي الراجح لصبي بليد
أسرع حينها غيث مقبلا يديه
وقال:
انت شيخ قريتنا الكريم وستبقى
إن اعتذارك عليّ لعزيز
ارفع رأسك فانت من علمنا في البداية
انه في كل ما يحصل لنا في الحياة
درسًا نتعلمه والصفح عند المقدرة !
وبعد هذه الحكاية عيّن الشيخ غيثا حكيم القوم
وأرسل لأهل قريته طلبه الاخير:
اطلبوا العلم يا ابنائي ولا يأخذنّكم فيه الغرور
فأنا بنفسي وقعت في مكيدة الشرور
العلم نور نعم
ولكن اياكم الاحتراق بذاك النور
اياكم الاحتراق بذاك النور

Details

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *