قبل أن يلجأ الناس للكتابة
ماذا كانوا يفعلون؟ كيف يفكّرون؟
لا بدّ أنّهم أرسلوا أشعارهم عبر الرّياح
لا بدّ بعثرتها رمال الصّحراء إلى البعيد البعيد
لا بدّ نثرتها فوق خدود الهضاب وأخاديد الأودية ، فسكنت تلك من حرارة عاطفتها الجيّاشة ثمّ غفت إثر ذاك الهبوب مترنّمة سعيدة
حين يأتي الربيع يولد الحنين
الحنين إلى الماضي العميق المدفون في الخبايا
حيث تعشعش اللحظات كفراخ جائعة تنتظر منقار أمّ يطعمها الحاضر
صغيرة هي وطفولية رغم الزمن
لحظاتنا السرية الدافئة العابقة بالحب والخوف والوجل
ما إن يلاطفنا نسيم آذار حتى يطيب الزهر في أنوفنا وتنادينا الأشجار بأصواتها العملاقة
كجذع خالد أبد الدهر وعلى مر الأجيال المتتالية
كل شجرة هي حكاية
وما الفصول إلا وهم الزمن
فلا يعرّي خريف غصنا إلا ليعلّمه فنّ الولادة ولا يؤرّق زمهرير نوم عصفور إلا ليزرع في يومه أمل الغد ورضى الماضي
ها نحن قد انطلقنا في البراري وانسكبنا في أقداح من الغيم الأزرق
تحتسينا الحقول المغمورة باليانع من العشب فترتوي من ضحكات قلوبنا المشتاقة للفرح
إن اشتياق الفرح فرحٌ .. وتأمّل الخير هو الخير..
وسرعان ما تلتفت إلينا فراشة تائهة من رحيق ما … فتدغدغ أحلامنا المنسابة فينا ..
ونلمح من مسافة ليست ببعيدة راعيا شوت وجهه حرارة الشمس فنعجب : متى سطعت حتى كوت بشرته هذا الكيّ القاسي!
أمامه عنزات لطيفة يأخذنا ثغاؤها لعالم آخر.. لم نك فيه .. بل كنا ولكن أنستنا إيّاه هموم الأيّام.
وبقرات سمان ترعى النّضر وتكمل رسم لوحة الربيع بريشتها المرقّعة بين الأبيض والأسود ، لتضيف للألوان آخر الألوان.
ها أنا أكتب ما كان يجري في عقول الأقدمين كنهر دافقٍ عاجزٍ عن التّمهّل لقدرة ربّانيّة تمنعه ذلك .. تراهم كانوا يمتلأون بما تفيض عليهم أقلام الوجود فيضطرون إلى محو ما دوّن بالنوم أو البكاء..
أو أنهم استخدموا النسيان وقتها كممحاة أمضى من سواها ليحتملوا التالي من الأحداث والمشاهد.
وبعدها بدهور .. ابتدعوا حفر الحرف في الصخر ليخبروه مآسيهم وليفرغوا حمل أفراحهم في تجريحه .. كما يمعن بعض المحبين في جرح أحبائهم ليخففوا عن أنفسهم وطأة المشاعر.. أو لينتزعوا من قلوبهم شغفا ثقيلا على الأرواح.
مع رجوع الربيع ، ورجيع المواشي ، ومزامير الرعاة ، تعود الأمّ لعشّها بعد غيابٍ ، تحمل بمنقارها طعام النسيان ، ذكريات الأمس.
فترتجف أجنحة الحب الغافية في الشوك ، ترفرف كي تطير..
ها هي تطير .. تحلق في الأعالي ..
الحبّ يتولّد كشقيقه الربيع من رحم مطر تشرين الباكي .. تلقّنه الوحدة أولى دروس الحريّة.
فلا يمتلكنّه العشّ أوالأمّ فيحلّ زائرُا كما يمضي.
هو لغة المعجزة التي تسكن في الطفولة ، ولا تشيخ.
تذرف الألم ، ولا تحزن.
تطيل الانتظار ولا تفنى .
تجيد التحليق ولا تسافر.
الحب يسكن في البال
سر عظيم ومعنى محال
إنّ القلب المفعم بروح الحبّ حرّ من تسميات الدنيا
غريب بين البشر … شديد السّعادة
عاجز عن معنى الخيانة
قادر على الفناء حتى اللانهاية
إذا حاصرت الحب في قوالب المسميات مات
إذا كبلته بأساور الذّهب ذهب
إذا وهبته كما يهب الوجود ذاته امتلكته
وإذا امتلكته فاسأل :
قبل أن يلجأ الناس للكتابة
ماذا كانوا يفعلون؟ كيف يفكّرون؟
لا بدّ أنّهم أرسلوا أشعارهم عبر الرّياح
لا بدّ بعثرتها رمال الصّحراء إلى البعيد البعيد
لا بدّ أنّهم سهروا حتّى الصّباح بين البطاح
لا بد أنهم كلموا القمر فأجابهم
لا بد