لا لم يكن مثاليًّا ! …

قصة قصير

وندي

كانت تحلّق بسرعة كبيرة .. تتنقل كسهم من أي موضع تلمح فيه عيدان قش او كمشة قطن أو أي نسيج ملائم لتتم بناء عشّ بيوضها القادمة بُعيد أيام خمسة عشر… اليوم تحديدا يكون القمر متربعا كبد الليل ، فاردا جنحه المضيء عن اليمين وآخر مظلما عن اليسار.. وهي هي ما تزال في سعيها بين الحقل والنافذة في الأعلى… تومض كقنديل يشح زيته…

كان القنديل لا يزال صامتا على المنضدة ، هناك قرب النافذة ، على مقربة من السرير الذي تغطيه شراشف بيضاء مطرزة بالورد الأزرق والأحمر… وفوق المنضدة الصغيرة تصطف كتب الشعر الثلاثة التي لم تقرأها وندي بعد… بل في الحقيقة بدأت بواحد منها هو الرابع… كانت تحمله معها لأي مكان تقصده علّ الوقت يسعفها فيه… كانت تركض بسرعة … تتنقل كسهم من عمل إلى عمل ..من غرفة إلى غرفة …تنهي ترتيب الأسرّة هنا .. تغسل أطباقا هناك … ثم تغوص في إعداد وجبة غداء جيدة بنشاط منهِك أجبرتها عليه ظروف العمل خارج المنزل .. فهي سرعان ما تلقي بمحفظتها في أيّ مكان يختاره هو أي المكان ليحتمل ثقلها! رغم احتوائها فقط على قارورة ماء صغيرة ، أقلام لوح ، قلم أزرق ، وآخر أحمر.. هناك الأسود والأخضر أحيانا … ودفتر صغير… لكنها أي المحفظة ترمي بهمّها الغريب فوق كتف المقعد ، طاولة الطعام.. ومرات السرير… بينما تكمل وندي دورتها اللامتناهية في أويقات اليوم المتبقية حتى تلفظ آخر أنفاس التعب عند السابعة وقد استعدّ القمر معها لاستقبال هذه الناحية من كوكبنا الصغير.

ها هو حوض غسل الأطباق قد خلا من الصّحون والقدور …وكان موعد الجلسة الحلوة إما على الشرفة أو على الطرف اليسار من السرير قرب النافذة الخضراء والمنضدة حيث الكتب التي تنتظر…

تحب وندي الإستماع إلى مقاطع اليوتيوب ، هي بمثابة خزان الماء الذي ترتوي منه كل لحظة لتعوض عن خسارة الوقت في الجهد والعمل ، حتى لا تتوقف ساعتها الخاصة ، ساعتها التي تسير بهدوء على إيقاعها هي ، لا على إيقاع الحياة في الخارج … خارج جسد وندي ،خارج عقلها وروحها الزمان مختلف.. الدقائق أسرع، هي لا تريد أن تلتفت اليها ، تصفعها كل يوم بنبرتها ، بحركاتها ، بتصرفاتها وردات فعلها كأنها تفرض نغمتها على كل الاشياء المتسارعة ، هكذا وندي شاطئ يتلقف الأمواج ، وتيرة نسيم سهلة!

ماذا عن المتعة ؟ الرقص.. الجنون… السيجارة… اللهو…كلما طرح السؤال ذاته عارضا عضلاته ، أجلت الإجابة… سينقضي كل شيء وندي…متى ستجيبين ؟ وتدفن بعد السؤال كل الإجابة في هاتفها… في كتابها.. في تأملاتها الدائمة…

تتخيل الإجابة فارسا يمتطي حلما أبيض ، يرمي السعادة منديلا شفافا فوق شعرها ، ينسدل بهدوء كاشفا الخصل الكستنائية ، ممجدا جمالها وكأنه أخاذ من سر مدفون في قفير نحل!

نظرت إلى كل شيء…لم تجده مثاليا…لكنها كانت راضية..وممتنة لهذا الشعور النبيل .. لهذا الرضى المقسوم كقمر هذه الليلة! نصفين….

بينما همت وندي بفتح كتاب الشعر تضاربت في رأسها رغبتين: القراءة او التأمل… مجرد الصمت… وقد حنّت للخيار الثاني مشفقة على نفسها من تحمل عبء آخر…دون ان تشعر…وحسم هديل اليمامة هذا التضارب ، فبينما كانت ترقبها وندي في روحتها وإيابها السريعين ، ونسجها العشوائي لذاك العش على حافة النافذة الخشبية الخضراء… ربضت تلك اليمامة ها هنا ترمق عشها الذي لم يكن مثاليًّا… لكن اليمامة كانت راضية… وممتنة لهذا العمل النبيل.. لهذا الفن الذي فطرت عليه!

حملقت وندي في تلك اليمامة وكأنها في إغفاءة رغم ان عينيها كانتا مفتحتين ، وقد التهمت تلك المشاهد ساعات اليوم الطويلة ، تلك الساعات التي كان يغتصبها الشقاء بلا رحمة ، وكان يرتدي على الدوام قناعا آخر…

وقت الاصيل ، شراب خمريّ يسكب في الروح الحنين ، وبالقرب من نافذتها الخضراء يعشوشب أملٌ دائم.. امل يستيقظ مع الفجر ولا يغفو مع المغيب… لا يهدأ … يتنقل كسهم… ليكمل العمر بناء عش ما.. لا ليس مثاليا لكنه مرضيا على الأقلّ..

تسرّب النعاس لجفن اليمامة وهي رابضة على حافة النافذة الخشبية الخضراء المصنوعة من خشب الكستناء ذات الشفرات التي تسمح للنور ان يتغلغل إلى الداخل ! وللهواء أن تشربه حنايا البيت الظامئ… كانت شفرات تلك النافذة الخشبية الخضراء تعتق الأسرار… تفلتر الأحزان كمروحة…

دفنت اليمامة رأسها في جسمها المكتنز بالريش الرمادي.. وحين تكون وندي وحيدة.. تدفن شغفها في صدرها تغطيه بكفيها…وأحيانا تطبقه عيناها ذات الأهداب المكتنزه الشقراء…

لم يكن الوقت قد آن للرقاد… قالت وندي مفكرة.. وقبيل إغفاءة اليمامة راحت تكرر في أديم الصمت هديلها المتقطع الموحي بالحزن…فيسكب في كأس المغيب المهيب خمر الهدأة الشافي !

تستسلم وندي الآن لشرود دافئ يغيّب الكلمات القليلة من الكتاب التي قرأتها بعينيها سريعا..تأملت ذاتها فإذا بها توحي للمدى بأبيات من الشعر…لكم يسهل عليها كتابته! ولكم تصعب قراءته..هو الفرق بين نعمة التفريغ ومغبة التحميل… تدفن في النثر الموسيقي الكثير من أشجانها ولا تريد ان تحمل أوزارا أخرى من المشاعر.. تنساب مع الروايات وأحداثها فتبتلع مئات الصفحات في أيام معدودات… لهذه الأسباب بدأت تفكر جديا بكتابة القصة بدلا من الشعر فليكن هذا الاخير محطة عابرة… مقتضب وشرير لكي يقتحم القلب بالقوة دونما مقاومة !

لم تكتب الشعر بشكل مثالي لا… لكنها كانت راضية نوعا ما أنها استطاعت ان تشق لها طريقا… ان تغزل امسيات خاصة أثوابا جدد… أن تلعب نرد الحجارة المرصوصة على دروب وعرة…ان تكشف عن سحر عبق النرجس المضطرب وسر الحبق المخملي وشذاه.. ان تصرخ في اذن الجداول الصماء التي لا تدرك ان خريرها أطنب حواس النهارات الربيعية النرجسية…

ما إن انتصف الضوء وأطل القمر بجبهته المقسومة ، وامتزج انين اليمامة بتلك السكينة حتى غرقت وندي في حضن الوسادة ذات الريش الرمادي… وتطايرت خصلات شعرها الكستنائي .. مع نسيم أيار الذي راح يبعث بآخر نسماته بسخاء! كمودع يرسم صورته الأخيرة.. لم تكن مثالية… لكنها كانت مرضية تماما..

آدم

أنا مثالي تماما في لامثاليتي!

أعرف كيف أدوّرُ الوقت على مزاجي ، أتحكم بزمام الساعة لكي نبقى على قيد الأمل المتواضع… لكي نحيا بقليل من الخبز واللحم والأرز الأبيض الذي أحبه بجنون ، أحب ان يرافق أي طبق كان … أتذكر أنني كنت أطبخه بمهارة لي ولرفاق غرفتي في بيلاروسيا ، حين سافرت لأعمل هناك ولم أمكث سوى ٢٣ يوما بالتمام.. حين نجوع مساء كنت أعده على أفضل ما يكون ، لكنني لم أطبخ الأرز بحضور وندي ، ليس لأنها تمانع لا.. بتاتا ، لا أعرف السبب ، مرتين فقط أعددته قبيل عودتها هي وابننا آلان من المدرسة ، كانت الساعة تجاوزت الثالثة ظهرا ، وكنت تضورت جوعا ، على كل حال أنا أقوم بأعمال عديدة هنا في المنزل ، لا بد من ذلك ، أحب ذلك ، لكن إعداد الأرز ليس من ضمن مهماتي ، أحب طعمه ورائحته من يدي وندي.. وندي فقط.
في بيلاروسيا ، كنت بلا هوية ، لقيط المكان والزمان ، انا لا انتمي للبرد ، ولا للفراء ، ولا لاشتهاء الفتيات لكل عابر طريق ، تشعر هناك أنك أمام علب هدايا مفتوحة ، هذا امر يشعرك بالذعر ،لقد اعتدت ان تنتظر الهدايا ، ثم تفتحها بنفسك ، ليلة العيد ، ليلة اي شيء… النسوة مع رجالهن والأطفال يستحمون في الحديقة.. أية لعنة ! لقد شرب نظري عن مائة عام ، اكتفيت تماما… لا أرغب بضم إحداهن ، لا ليست هذه هي الطريقة التي أحب ، التي اعتدت، رباه أين المسافات ؟ اين اللغة ؟ هل أنا أخرق ؟ انا مولع بالجميلات، لستُ أبلها أو فاقدا الشهوة… أين ذهبت حاستي تلك ؟ اولاد عمومتي يشعرون انهم في الجنة هنا… كل مساء يعودون برفقة إحداهن من الشقراوات الحسان… انا صراحة أكتفي بالنظر ، لا أحب التهام الأشياء هكذا دفعة واحدة…أحتفظ بتلك المتعة لوقت آخر ، لم يحن بعد.

تذوقت القليل من الشامبانيا ، للمرة الأولى في حياتي ، البيرا ايضا ، أرأيتم كيف اتذوق الاشياء رويدا رويدا… ليس مثاليا ان لا نجرب بعض المحرمات ، لكي يعتادنا المكان ولا تلفظنا امواجه ، لا بأس من ملامسته من الأطراف..وقد حسمت مطاردتي صراع البقاء المحتدم في كياني ، لم أتقألم.. ببساطة ، لا الشراب خدر خوفي ، ولا اغرتني الفتيات او الطعام الرائع ، ولا حتى الأموال… كان الراتب مرتبا جدا… كانت مطاردة خطرة بكل معنى الكلمة ، لقد راوا ساعتي الذهبية ، مجموعة من قطاع الطرق ، عصابة من الروس ، مجرمون حقيقيون ، كنت على بعد شبرين من الموت لولا سوري لمحني ، سرعان ما راح يكلمهم بالروسية ، أخبرهم ان ساعتي ليست من الذهب وانه صديقي ، وبعد ٢٤ ساعة كنت في لبنان ، كالمجنون عدت…

عدت كمهاجر ترك كوخه الصغير المحاط بالأشجار ، برتقال وليمون ، مسكبة نعناع وبقدونس ، بضع دجاجات ومقعد ، لم يكن بيتي كوخا ولم تك لدينا دجاجات ، لكن المقعد هناك يفتقدني ، كان يخبئ لي زاوية رؤية خاصة لوندي ، في حبكة اللانهايات ، في دائرة الدوائر ، إحدى تلك السباعيات اللامرئية … خارج حواس الفكر…انا بسيط لا أعقد الأمور ولا أستسيغ المصطلحات ، لكن سكناي ووندي أكسبني من رفاهية كلامها الكثير ، التفكير الذي لا يُنطق يُرى في كل شيء…كانت وندي تلك اليمامة الوادعة التي تخفي شغبا كبيرا ، إلى حد لا يصدق ! حتى أنا .. أنا من ظننت أنني أعرفها أكثر من تلك التي أنجبتها ولم ترضعها … صدمت..صعقت…ما زلت مخدرا للآن بقسوة قراراتها التي تنفذها قبل أن تبرم ! هكذا هي وندي…هكذا أنا … بسيط… أحب منطقة الأمان ولا أريد أن أبرحها… هي .. وندي تخطو قفزات وتمسك الهواء بأطراف أصابعها بينما أعد نجوم المساء بروية..أنا.. كيما أتأكد أن السماء واهلها على ما يرام….

كيف أعجبتها؟؟ ما زلت أتساءل.. ولكم يغريني ضياع الإجابة… هذا اللغز يربطني بها بعنصر التشويق الذي يجعل لحياتي الرتيبة المعنى الوحيد….مهلا ….آدم…..مهلا…انت انسحبت من كل المعارك تقريبا… تركت المدرسة حين عجزت المدارس وفشل المعلمون وحين أضرمت الحروب نيرانها على أرض لبنان… لكنك أيضا تركت الكتب… كأنك كنت تنتهز الفرصة الأولى لتقطع أية علاقة مع هذا الفكر الكامن فيك بصمت…تركت كل عمل أرخى بثقله فوق كتفي…بعدما تركته يأكل مني من كليتي.. ولم أطوعه ليصير عبدي… بل على العكس بقيت أنا عبده حتى آخر عمل لي… لم أتركه ولا أنوي… لأنه يتحكم فيّ بشراسة… لانه يؤكد مظلوميتي ويكرس كل احتمالات راحتي..

كيف استطعت يا وندي أن تفعلي هذا بي بعد كل هذا الحب العادي… بعد ذلك الحب الذي لم يكن مثاليًّا… لكنه كان مرضيا على الأقلّ…بل مجنونا في محطات غير عادية… سواء فبركتها أنتِ… أضأت شمعاتها بفمك..تركت شفتاك تحترقان بي فأوقدتِ روحي التي لم تكتمل إلا بك…كيف استطعت أن تفعلي هذا بي ؟رغم أني بداخلي اعلم السبب ، وهذا ما يمنعني من مواجهتك… لكنني كما ترين أكتب لك ما كان يجول في بالي منذ أعوام… رأيتك تفعلين ما تفعلين بكل وضوح… لكني كنت قانعا راضيا بكل ذلك… رغما عني… رغما عن أنفي.

جنين

أطفأ الليل نجماته في تلك السهرة… فقنديل جنين كان وحده كفيلا لجعل المساء اجمل… منيرا جدا…
كل مساء تعبث جنين بساعاته القصيرة تحبكها بمغزل التعب…
هي اعتادت هذا التعب منذ الطفولة… تلك السباعية الشقية التي رفضت المكوث في رحم والدتها اكثر من اللازم .. وحين حاول الغدير أن يسحبها في الحقل… ذات ظهيرة… تمسكت روحها بهذه الحياة… الحياة التي حفرت شقاءها في ذاكرة جنين منذ زمن…
قالت لي ذات مساء وبينما كانت تحبك كنزة لاختي سارة : انا لا أحبها ، فهي لم تحبني يوما… حرمتني المدرسة…كانت ترمقني بنظرات قاسية ملؤها الكره.. لماذا..لماذا ؟ لا أدري ولا أسامحها.
لقد حملت الكثير …
أشعر أنني أوتاد حقيرة لكن متينة..وفوقها تعمّر الكون…
أشعر أنني جبل تم حفره حتى الأعماق…ومع ذلك بقيت جوانبه قائمة تسد الريح العاتية…
أشعر بنبض فيّ نحوكم وندي.. نعم نحوكم…لكنني عاجزة عن القبض عليه بأوردة قلبي…هذا القلب الذي تُرك وحيدا جدا….
حين أحببتُ والدكِ يا وندي اعتقدت أن الحياة ستبتسم لي…لا أدري كيف أحببته…لكنه ساعدني على ذلك…كانت نظراته لي شافية…هو من لفت انتباهي لوجود قلب في داخلي…
لكن جدك وجدتك رفضا هذا الحب… ظنا منهما أني سأعيش تعيسة مع والدته القاسية…كأن القسوة كانت طبعا سائدا في زمننا… شرا لا بد من وجوده… سما دفينا موروثا حتى العمق!
ويا لتعاسة خياري هذا…ويا لنكبة إصراري…فمنذ وطأت داره…دار والدك ، بعد وساطات مع جدك الذي رضخ لالحاحي ، بدأت ليال سوداء لم أذق معها طعما للسعادة…
هنا قررت أن أتركه…لا تتصورين كم كانت عودتي إلى بيت والدي صعبة…كنت بين جهنمين أتنشق رائحة حريقي فحسب… كنت أصهر وأصهر ألف مرة ، كمن يحترق ويبدل جلده بأمر من حراس النار…. هنا صرخت من اعماقي…لماذا ولدنا؟ لماذا ؟

لم تكن تلك أما…لاما حضنتني وما أرادت ان تسمعني ..لم تكلمني..لم تسألني ما بك…لا بل سألتني ألف سؤال بعينين ملؤهما القسوة بلا أي حرف…تقول فيها عودي أيتها الساقطة لبيت زوجك فأنت من اخترته…لا مكان لك هنا في هذا البيت…هناك اخوة سبعة يحتاجون إلى رعاية… حضورك ثقل على قلبي وفوق جسدي ظلك يربض كجزيرة منفية…اغرقي بهذا الماء حولك..لقد لفظتك كما تلفظ الأمواج أسماكها النافقة..لا أحتاج نافقات في داري.أمام عذاباتي كان أبي يقف مدافعا ضعيفا بلا قوة غير الحنان الذي يفيض من عينيه الزرقاوين..كان سمائي..لكنها كانت بعيدة تلك السماء عن أرضي..لم تهطل علي بالأمان…ورغم ذلك …ما زلت لليوم أتوسد زرقتها ورقتها..تلك السماء الشفافة..خيمتي ومنفاي.

عدت لبيت جدتك بعد سنة واحدة من زواجي ،وأي زواج! كنت مجرد خادمة بالنسبة لهم..بينما كنت في داخلي ملكة هاربة من زمن آخر سقطت سهوا على أرض محروقة بعد حرب ضروس… وحين سقطت من كوكبها اذاك قبض عليها آخر الغزاة واقتادها إلى حظيرة ذات سور من حجارة..لم يكن خشبيا كعادة أسوار الحظائر..هي حظيرة تدعي انها منزلا دافئا…وكانت هذه السجينة ، تغسل الأثواب ، تدعكها بيديها الصغيرتين بينما هي ترتدي ثوبا كريميا جميلا ، وتثبت خصلتين من شعرها الأشقر الكستنائي بدبوسين صغيرين…لم تعد تشعر أنها جميلة كما تقول المرآة… بعد كل غسلة تغسلها لأثواب قذرة ملطخة بوحول الحقل…بعد كل غسلة لجبل من الأطباق والقدور البالغة القذارة ، حيث تلتصق في قعرها حبات أرز محروقة…واخرى طبقات وطبقات من الشحوم الحمراء بلون الصدأ…تماما كذلك الصدأ الذي راح يلتصق في قعر روحها وجسدها وأفكارها.

مرت أيام ها هنا في منزل أبي أيام ثقال… كل دقيقة لها وزن كنت أفقد معها بقايا أمل وشذرات سعادة… سعادة متخيلة فحسب… لكن قوة غريبة عظيمة كانت تدفعني قدما… تدفعني كأنها وقود لا ينبض وكأني القنديل الذي ولد لكي يضيء للأبد.بدأت أشعر بالغثيان ، لم يكن الاحتمال واردا بالنسبة لي لأسباب كثيرة تخص علاقتنا انا ووالدك… ولكن الاحتمال اللاوارد فرض نفسه ووجدتني حاملا بك وندي… لكِ أن تتصوري بقية ما حصل آنذاك… لا لم أعد…قاومت كثيرا ،تحملت عيني أمي… لكن لم أشأ العودة…حتى والدك لم يعد في نظري كما كان.. ذلك الحب حلت محله صور ومشاهد قاسية عشتها عاما … عام بألف عام …-ألم يكن والدي مختلفا عنهم…-انسي يا وندي… انسي الأمر…بعد ولادتك ، مباشرة ،وصل الأمر إلى الذورة صارت أمي أشد قسوة… ووالدي أكثر حنانا… في غيابه أعاني المرّ …وتوسط أقرباء بيننا أنا ووالدك… وحين جاء…وافقت.. عدت…لأجلنا انا وانت…. واستمرت الحياة… وجاءت سارة بعدك… تعرفين بقية الحكاية.

الموت

الموت …اول الصدمات وآخرها… نافذة خوفي ، رهابي، وكل معتقداتي القادمة…ارى الجنازات أمامي ، كانت في طفولتي أقل عددا ، ربما جثتان شهريا تسجيان إلى التراب… وبعد مدة تضاعف العدد… لم يكن مهما امر العدد… سؤال واحد عميق… إلى أين يذهبون ؟ وماذا بعد ؟ أسئلة الجميع… وكان الدين كفيلا بإيجاد الإجابات المهدأة لروعنا كلنا ، مع تشويق بطعم الرعب ، ففي داخل الحفرة سيأتي ملكان شريران يطرحان الأسئلة ، وأنت تجيب ،يسقيانك ماء عذبا إن استطعت النطق ، اما إذا نسيت الدرس بسبب الخوف فستجرع نارا… تماما كما تجرعت العصا بعمر التاسعة في حصة الجغرافيا لأن المديرة شخصيا قررت وقتها تسميع الدرس ، وانا بطبيعتي المرهفة نسيت الكلمات والمفاهيم كلها حالما تسرب عطرها إلى دماغي ، دخلت الصف تماما كأحد الملكين ، ربما كانت كلاهما معا… وانا صرت مكفنة بكل انواع القمع الذي عجن مع براءتي… وحيائي… لم أصرخ في وجهها : أيها الملك اللعين… أيها القبيح… نسيت الدرس… فلتحل عليك اللعنات وعلى جميع الكتب التي سطرها قادة الرعب المقدس.

بعمر التاسعة أحببت الله الجميل ،الذي الجأ اليه كأبي ، كصوت أعلى من صوتي وفضاء أشد رحابة… كاني السحابة والصلاة مطري.لم آبه بهاتيك المخاوف… ولا بأفلام رعب تجار التاريخ والسياسة… نفذت بجلدي منهم كما ينفذ الغزال في ساح الضباع… لكن الهواء الفاسد لا بد ان يلوث أنفك على الأقل إن لم يصل الرئتين.عندما تسمع لآلاف المرات أن قدميك ستحرقان بالنار إن لم تغطيهما تماما بالقماش ، وكذلك شعرك … ستحاول أن تحترس وإن قاومت تلك الأفكار لسطحيتها بنظرك… ستواجه جدالا مع داخلك… مع تلك الآية ( الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم كبر مقتا عند الله وعند الذين آمنوا كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر ..) ليس مزاحا.. هو كتاب مقدس وانت تواجه ما تظنه آيات لا جدال فيها ، اي كشف شعرك..قدميك…التزين…تتعب…إلى ان يأتي المنقذ…هو الذي يدلك على ذاتك انت …يخبرك انك اقوى واقدر مما أخبروك… وانك صديق الله ،تستطيع ان تجادله وقد تصلان إلى تسوية !

اذكر أنني بعمر السابعة عشر قصدت شيخا لأسأله ما سبب إفطار المسافر رغم ان السفر غير شاق… عدت للمنزل بلا إجابة… ومن حينها وقبلها بمدة بدأت قشورهم تتساقط ، بدأت غباراتهم العالقة بفكري بالزوال ، كنت اغسلها بالتفكر… بالموسيقى وبعض الكتب الجميلة… كان اغتسالا طويلا… فالوحل لا يتركك تنفد بسهولة!

لماذا كل هذا الحزن؟ألف عام واربعمائة وما زلنا نبكي ونرتدي السواد ، لم لا نحتفي بتلك الكرامات… لم لا نرقص ونضحك..لم لا نتقن الفرح ؟لان من علم بعضنا ان يقطع الراس علم آخرين ان ثمن الجنة بحرا من دموع…ها هنا يفيض نهران… نهر دماء… نهر دموع وشقاء… وتقف الدنيا عاجزة امامنا…. تقهقه بسخرية… لقد اوجدتكم لتعيشوا… دعوا الموت يأتي بهدوء…لتعودوا بهدوء.

حين سمعت قصة الشابة المتوفاة ، لم أعد كما كنت…في منزل صديقتي سمعت أشياء غريبة ، المخيف أنني لا أذكرها ، المرعب ان آثارها ولدت في حزنا عميقا…عميقا…صرت ابحث عن السعادة فإذا بها تهرب مني كلما طاردتها.. حبست نفسي في قفصها ،وتركت الشجر والطيور…

لا اندم على شيء في حياتي ، فقد كانت كل العذابات التي عشتها في داخلي جسرا خفيا لما هو آت.لقد اختبرت كل الاوهام، ثم كسرتها ، كما يكسر ضوء القمر صفحة العتم…جميلة تلك الظروف التي تشذبك ، تقلع منك الاعشاب الضارة ، تعود شجرا غضا…لم اعد سوى تلك اليمامة التي تربض بسرور على حافة نافذتي بلا هم….تسبيحها جميل… ترتيلها أخاذ… كما تسبيحي.. نظر.. همس.. نفَس.. إغفاءة…إيماءة… فكرة..نية..حب… مجرد حب… بلا خوف…

كرمة العنب

فراشة تبدو وندي في ذلك الثوب الزهري ليس زهريا خفيفا بل فاقع الزهرة ، طياته كثيرة ، عندما تتحرك تبدو كزهرة مع جسمها الرشيق المكتنز عافية…كنت أفخر بها ، بهدوئها ، باتزانها منذ الصغر… تذهلني رقتها ، اعجب ان تكون لي ابنة مثلها… كما اعجب بسارة وذكائها وبقية بناتي… لكل واحدة منهن زاوية خاصة في جسدي وفكري… رغم اني لا اتقن التعبير عن ذلك لهن بتاتا… لكن ما احمله في قلبي اكبر مما يظنن بكثير…حين كانت وندي تزهو بجمالها الزهري في ظل عريشة العنب ، لم احتمل نظرات صديقي ، ناديتها ، طلبت منها ان تصعد لفوق… للمنزل… تعجبت من ردة فعلها المتفهمة ، اذ ادركت مقصدي وبدلت ثوبها برضى… كانت لا تحب إثارة أي كان ، رغم صغر سنها كانت شديدة الوعي والذكاء…هي من أعادتني إلى جنين…لم آبه في البداية أنها تركتني ورحلت.. كنت أستحق ذلك… الألم الذي أعيشه يوميا مع والدي ّ جعلا مني رجلا قاسيا وصامتا… كنت افرغ مآسيّ بقبضة يدي… أنهال ضربا على جنين.. كلما أحسست بقوتها ومقاومتها لظلمي… لظلم أمي.. كانت صفعاتي لها تخرج الوحش الكامن فيّ… تمنيت لو لم تعد.. لترتاح مني…من امي…من تلك الحظيرة باسم بيت العائلة… احببتها كثيرا رغم عنادها الشديد… لذا تمنيت لو يحميها القدر مني ، لكن والدتها كانت قدرها القاسي ، أعادها لي… تغيرت… ولكن بعد وقت طويل….سارة تشبهني قليلا… وندي تشبه والدتها أكثر… أليف بين – بين…. أليس لها طباع وشكل خاص…اما سامي فهو تلك النسخة المكررة عني مع بعض التحديثات…

في ظل عريشة بيت اهلي كانت العناقيد تجمعنا بحباتها النضرة الخضراء بعد اعوام من الظلمات… خرجنا منها أشخاصا آخرين… لقد اختزلنا مرحلة انسان الكهف ، فالمزارع ، فالمتحضر… تحت تلك العناقيد تناولت أمي العجوز اعواد مثلجات تنتمي لقرن آخر… بعدما كانت لا تعرف سوى الحقل… والرضاعة.. وتولي زمام الأمور… كانت رجلا في جسد امرأة… شديدة الجبروت ، تامر وتنهي كأنها هاربة من جيش عثماني لا يخاف ولا يرحم…. آه…كم مرت علي من امسيات تبدل فيها جلدي فإذا بي بعد كل أمسية أتدحرج… وأكبر… أجمع في مخيلتي صورا جديدة ، هرعت إلى الحقل صديقي ، أبثه قهري ،فلاحة وعملا… لكن بلا أم تمعن في ضربي إذا خالفت الأوامر… كانت تضربني بقسوة أما أخي نديم ،فكان مدللها ،كان بارعا في اصطياد الفرص كما قلبها…لا تسند اليه الاعمال الصعبة التي بقيت من نصيبي ،حتى تزوجت ونجحت جنين بفصلي عنها… كان ابي ذا شخصية لكنه امام امي كان يبدو ديكا منزوع الحنجرة… لا اقول تبا للنساء… بل تبا للرجال الذين يتخلون عن ذلك المقعد المخصص لهم ، كانهم يفضلون اخذ قيلولة بلا نهاية… وبين الحين والآخر ينفسون رجولتهم بزمجرة وضرب وعبوس…

بيني وبين آدم ألف طريق

اليوم حين رأيت اليمامة تستعد للرحيل بعد أن فقست بيوضها ورحل الصغار ليشق كل منهم طريقه الجديدة ، أدركت أننا كتلك الشرايين الممتدة على محيط جسدنا العظيم الصنع…. طرقات…مجرد طرقات لامرئية تتصل بآخر نقطة من هذا الكون بلا بداية معروفة… وأدركت أننا في النهاية سننفصل عن كل ما اخترنا وكل من عرفنا لنصب في الطريق الرئيسي الأوحد..نحن ..ونحن فقط…
أدركت أن حبنا لكل من حولنا هو تمويه ذكي لحب واحد فقط..ذاتنا..
انا كوندي أعتبرها مقدسة…
قبل آدم مر في دربي ألف آدم وتساءلت كثيرا… من يريد قلبي؟
لكنه هذا القلب كان يافعا جدا ، لم يهتد لمحبوب غير هذا اللامحدود… كان قلبي لاأرضيا… رغم أن جسدي بات يهفو للدفء والحنين.. الا أنه هذا القلب كان دائم التحليق كيمامتي تلك… وصغارها…

ألم تكتمل صداقتنا للأبد…

في تلك الأمسية ، حين عدنا من طريق المشي أنا وجاد وأختي سارة ، كان القمر بدرا جميلا ، يوحي بالكثير من الأسرار المكتملة الغموض ، الأسرار لا ينبغي أن تُفضح ، لأنها تستهلك كل روعتها وتتبخر!
كنت منذ طفولتي أعتبر جاد ابن خالي ، صديقا…أخا.. أغضب من حرصه الشديد عليّ ،وأحيانا كثيرة يروقني حين نتبادل الكلام ، نشعر كلانا أن الوقت يسير بشكل أسهل…
في تلك الأمسية فضح جاد سر قلبه لي… ولم يدرك أن المكنونات لا يجب أن تخرج من مخائبها بهذا اليسر! دعكم من الواقع.. الخيال مفتاح الحياة ، لا يتفلسفنّ أحدكم ويقول كوني واقعية هيا… خذي الأمور ببساطتها… منذ متى كانت الأمور بسيطة؟ كل شيء معقد متشابك… نحن في الداخل خلية من أعصاب ،تخترقها آلاف السيول الجارفة وتهب عليها ألف عاصفة في اليوم… من يستطيع منا أن يفكك تلك الشيفرات المعقدة؟ لا أحد… أجزم.
ليأتي جاد ويقول لي أنا أحبك يا وندي ،هكذا… دون أن يكون حاذقا ويتوقع ردة الفعل… فهو يستحق إجابتي القاسية… أنا لا أستحق منه هذا العبء المضاف ، لا أدرك للآن كيف كسر صداقتنا بهذه الطريقة وانتقم أشد انتقام على جريمة بحقه هو من ارتكبها…

لعبة الشدة

مشروع جيد لحب أول لم يولد ، كتب عليه الموت منذ اللحظة الاولى.
لمحت أمي نادر ،صديق أخي داني وهو يتأملني عندما كنت أقدم أكواب الشاي للجميع… كانت الغرفة مكتظة ، أنا ،أخوتي، أمي،أبي… ونادر… وبعض الأصدقاء الآخرين ،كان نادر أكثرهم ترددا لمنزلنا يوميا تقريبا ، وكانت السهرات التموزية تحتفي ككل عام بتوديعنا للمدرسة ، كنت حينها في الصف التاسع ،أي أنني صرت ناضجة ، لا بد أن تستعد الفتاة في مثل هذا العمر لاختبارات الحب والارتباط والخطوبة ، الا أن هذه الشرائع السائدة كانت على إغرائها مستعجلة جدا في القدوم إلى جسد غير جاهز وفكر غير حاضر بتاتا…اربعة عشر عاما ،أي لدي في رصيدي أربع سنوات فحسب وتصدر نتائج الفحوصات المخبرية الاجتماعيه: قابلة للحب… فاشلة…
هذه التحديات الشائكة المغروسة في أعماقي حرمتني متعة عيش اللحظة… ببساطتها.
نظر إليّ نادر ، علق عينيه فوق هالتي الشفافة ، أحسست بثقلهما ، بخدر وخفر… عشت الشعور لدقائق لم تحسب من عمر الزمان ،وبعد زمن ، تناول كوب الشاي ، أخيرا … رشف منه رشفة .. سحرني بتعويذة ما… جسلت قريبا منه وعلى مرأى من أمي التي كانت تلحظ المشهد ولم ألحظها حينها… في اليوم التالي ،سمعت وشوشاتها مع أبي ،وأخي داني ( أخبره أن لا يعود إلى هنا.. )
لم اشعر بحزن كبير ولا تعاسة.. كنت ما بين البين ،كالمنضدة، والكرسي الهزاز ، كتلك الشمعة التي تضاء اذا ما انقطعت الكهرباء… كسجادة الصالون الخمرية… كلوحة الأم الحزينة التي تختصر عمرا من البكاء غير المبرر.
أسرعت إلى غرفتي ، فتحت ورقة مهترئة لشدة ما عليها من أرقام نتائج لعبة الشدة ،وما بينها كلمات لأغنية قديمة تنضح بالحب ،حاول نادر اخفاءها كما يخفي اللصوص الذهب بين حبات الأرز البيضاء ، دفنها في عمق البياض ، وطاف السواد على السطح ليخفي كل المشهد… المشهد الذي كان يحاول أن يتنفس الحياة بصعوبة ، ان يستحضر الحب ، ان يفسر معناه، ان يكشف هذا اللغز الذي يربحك الجائزة.

عروج جميل

جميلة هي الحياة ، حين نشعر بلطافة كل شيء ،لن يستطيع الخوف أن يلمس قلب المتأمل في كل شيء… بعكس سارة كنت أواضب على صلواتي، ومنذ البداية دون أن تكون ثمنا لشيء منتظر ولا خوفا من عقاب… كنت أحب هذه الخلوة ، أحس أنها تفريغ لحواسي المثقلة بالأفكار والمشاهد ، حتى عندما بالغت في عكوفي هذا بعمر أكثر تقدما ، ربما عند السادسة عشر وحتى السابعة عشر من سنيّ لم يكن الأمر خوفا ولا تعصبا على الاطلاق ، بل كان صورة ومرآة تعكس بلوغ صراعاتي النفسية والفكرية أوجها… كنت أنضج بشكل مضطرد، أهضم الحوادث من حولي ، أتنشق فضاءاتي وأزفر منها ما لا يلزمني ، وكلما مرت سنة ، تبدلت الزفرات ، وتغيرت طبيعة النّفَس الذي أحتاجه… تبدلت آرائي وتوجهاتي بشكل كثيف ، كنت أظن الأمر معه ضربا من الجنون أو عدم التوازن ، لاحقا جدا أدركت أن هذا من سمات الوعي والتطور. هذا حسن..أنا راضية إذا عن كل ما حدث لي في الداخل ،لا ضير من التغيير.

لعبة التصفيات النهائية

تقدمت عامين آخرين ، اشتريت مجموعة كتب ، لتكون صديقتي ، حاولت ممارسة لعبة الحب عن بعد… إنها الطريقة الأسهل لكسب الجولات ولو من طرفي…
عندما غضب مني جاد ابن خالي لاني قلت له : انا اشعر انك أخي… هيا انسى هذه المزحة ، كنت أخوض تلك اللعبة الافتراضية ، وودت ان اجرب لو كان قلبي صالحا للاستخدام ، وثبتت صلاحيته ، ممتاز … لا يهم من يرحل… من يأتي… المهم ان النبض شغال ، وساعتي غير معطلة.
بينما كنت أخرج من تلك التجربة التي عشتها بعد رحيل نادر من لبنان ، رحيلا نهائيا وقاطعا ،لثلاث سنوات متتالية، لم يكن الخروج بتلك السهولة التي تخيلتها ،لقد عشت تعلقا موجعا ،ربطت حياتي ولحظاتي ودقائق انتظاري بشخص لا أبوح له بشيء ، ولا ينتبه لي من الأساس ،كان هدفي ملء وقتي ، وتجربة حواسي… هو أحمد…
كل من كانو يتوددون لي… يلاحقون ظلي… نسيت أسماءهم ، بقي اسم واحد يتردد في وحدتي ، نادر ضوء خافت ثم أحمد.. أحمد قنديلٌ قويّ أضاء عتمتي لسنوات ثلاث ،أعمى إرادتي عن أي كائن آخر.
حين عدت من فقدانه هو أيضا ، كسروة ضربتها الرياح بقوة ، تشعر بدوار السفر من ريح بحر فاض فجأة… كان آدم.

حريق في البرية

كنت مستغرقة مازلت بروح أحمد ، أناجيه كلما اختلى المساء بقمره ونجومه ، كأني العابد وهو المعبود ، أرتشف منه رحيق الحياة ، وأشفى به من كل مرض ينتابني حين يأتي الحزن على غفلة… وبينما أنا في هذا الوادي ، أمر بين جبلين والطريق تبتلع سيارة أبي ، رأيت آدم ،جارنا… كان يقصد هذا الوعر الذي يحترق بفعل الحرارة ، تجمهر كل أهالي البلدة ليشاهدوا لهيب النار التي صارت تلتهم الاشجار ، كأنها في مشهد هرب من قارة أخرى حيث البراكين تعيث في الأرض فسادا… لم يكن في السيارة سواي ، أبي وأمي… هرعت معهما لأشهد ما حصل… بينما بقي الجميع في البيت آنذاك….

وعلى الطريق التي تفصل ما بين المنازل المتجاورة في عام آخر… كنت فيه أغرف من صمت أحمد قاموس كلمات جديدة ،ومشاعر لم أختبرها من قبل ، وحيلا كثيرة لاستراق اللحظات… لحظات اللقاء من جانب واحد ، جانبي طبعا… كانت ملامحي هادئة… كان أحمد معتصما بحبل ذاته ، لا يبرحها الا لأماكن مجهولة لا اعرفها… كنت أفترض اهتمامه بي وملاحظته لي .. اما هو فلا ادري …كنت اتمنى ان يبقى الامر سحريا هكذا وخياليا مناسبا لطقوسي… ملائما لطبيعتي الساكتة.
كنت أشق الطريق مع اخواتي ، مبتهجة باللون الأزرق الذي يريحني ارتداؤه.
رأيت آدم … كان يرمقني بتمعن … ،هالني الأمر ، شعرت بانزعاج .. بنشوة انتصار… بين رغبته بي .. ورفضي…
أنهينا مشوارنا، بضحكات مكتومة…

وعلى الطريق الطويلة المتعرجة كأفعى، حين عدت أدراجي من مأتم آخر أوهامي وربما أولها… هاتفتني أخت أحمد ( هل تقبلين أن يحدثك ولو لنصف ساعة…؟)
انا حقا أجهل حقيقة تلك البرتوكالات والعادات والتقاليد… لكنها بمفهوم الفتاة.. بمفهوم وندي… ليست سوى عجزا عن المواجهة…
كان احمد مثلي يبحث عن حب.. ويخوض تجربة…لكنه هو من رأى وانا من أغمضت عيني … آدم… لقد تعبت..

إنها مرحلة التصفيات النهائية ، بلغت العمر المناسب للمشاركة في اللعبة… التاسعة عشر ، الرقم الفاصل بين العزوبة والعنوسة… لن يشفع لك وجهك الجميل ولا قلبك طفلة ، او حتى الف كتاب ومئة الف كلمة ساذجة… ومليار حكمة عن اعتبارك فتاة…مجرد فتاة لم تجد رفيق حياتها بعد.

اللاشيء
انا لاشيء….هكذا ترينني أيتها الفاتنة …بلباس بيتي أصفر…يميل إلى شعاع قنديل في أول انبعاثه…نقي…شفاف…يظهر الحزن المتخفي بداخلك خلف اجتراح الابتسامات الهادئة….هذا الإهمال الذي أبديته لي منذ أول لقاء…وندي…كان ليشي بما ينتظرني…ولو لم يكن موعدا مبرما…ولو لم تكوني على علم بقدومي…لكنه كان أمرا متوقعا…وأنتِ حضّرتِ للمتوقع اللاشيء عينه الذي رأيته في حضرتكِ…
لقد زرتُ معبدك وهو خاوٍ بعد ان مضى منه الماضون وخلفوا في حنايا الجدران رسوم الأثر العميق…وطقوس الحب الذي لم يعد…جئتُ لأؤدي صلوات عشق ما مفترض…فوجدت الإلهام وحده مضاءً كمتوحد في غار بعيد…ينوي أن يتنسك…حاولت الإمساك بكِ؟ لا…كنت الخيط الأقوى منذ البداية…خيط الليل الجارف…وانا فصل النهار…تعلمت منك اشياء كثيرة… اعظمها القهر…وأنبلها الانتظار…
لم أكن تلك الخميرة التي تشبهك كيما تمضي في العلن سبيكة حلم طازج…أبقيت على قلبك عذريا وحشيا لا منغمسا في أحابيل العشق…
ومرت سنون وأيام ودقائق بعدّها العكسيّ بيننا كأننا اصطلاح شرقيّ قديم…
حاولتِ الحب أكثر مني… ولم احاول لأني أنبض بك ولا يبان عليّ وهذه مأساتي…
هذا الخوف…هذا الخوف الذي تجسد عاريا في صدري للعيان..عاريا…كان يحفر في صدرك غلّي واحتقاري…
وندي…هذا الخوف منبّت في أصلي كفرع أصيل…لا أقوى على قطع أصلي…كوني أنتِ تلك الفروع التي أخالها في العراء يمّي وواحتي…انا عطش وانت ماء كل الكون…وهذا ما جعلني أحتمل كل محاولاتك المكشوفة لحبي…راقني أن تتعلقي بحبالي الواهية… ولم يزعجني اني غير محبوك جدا بخيوط أفكارك…يكفيني أنك بشباكي قد سقطتِ عمدا…لأن الطقس في بيتك بارد جدا…خلتِني معطف بردك..اولم أكن؟
حقدك على جفاف مخيلتي من إبداع الفرح يثكلني…ولا أعترف لك عمدا…كي لا أموت مرتين…
لقد مت بك حين لمست يدي دون احتكاك لمّا قدمت لي خبز الأمل بأن أحظى بك…وانا رضيت بهذا الموت فلا تعجلي عليّ بموتي الجديد الذي لا أرغب…موت رحيلي عن وجدانك…وهجرتك الموسمية…

لا أدري لم هذا التشابه في الحوادث والأسماء بيني وبين آدم تفاحة وأنت وأرض سقطت عليها ولا أريد العودة!
في رحلتك معي الممتدة لسنوات لم أعطك ولو وردة…
أتعرفين لمَ ؟؟
لأني كنت أنتشي بمرآك وانت تقطفينها وحدك…حتى دمعك كنت أحبه…حتى جليدك الساكن تحت الجمر البادي…
لا داعي لأن تحبيني…يكفي أني أحبك..يكفي أن أحبسك في هذا البرج الخاوي… يكفي أن أرى صبرك نحوي…على هذا النحو….وانت بين صفا فراغي ومروى خضوعي حائرة…
ولكن ما لم أحسبه يوما… أن ينمو جنحك خارج عشي الصغير…ولا أحسبه سيطير ولو نما…فانا اختبرت عفتك تلك…وسأحرق كل الغابات كقسم إن أنت تجرأت… ورحلتِ !

ان تتجاهل انك ستحتاج اليوم او غدا إلى شخص يشبهك إلى عقل يحاورك ولا يمل من تبادل الأفكار ويزاحمك على مشاعرك..يقهرك…ليشعل فيك ذاك الحب..شعلة الحياة تلك…
فاعلم…اعلم جيدا … انك ستعاني جدا…
ستهنأ للحظات أن الهدوء يعم المكان ..ستتوهم ان كل شيء على ما يرام….وبعدها بمدة سيشتعل جمر يحرق كل ما فيك…
وأخيرا ستصبح كاتبا او ستصاب بالجنون.
وكلاهما تحقق.

الليالي المظلمة
لقد ظننت أن محاولات حبي لآدم ستثمر… لكني لم أتنبه إلى ان مجرد المحاولة لا تفي…ماذا فعل هو..ليخدر على الأقل بقية احتياجاتي الجائعة ما خلا الحب…
لا شيء…
كان الطقس خريفيا ناعسا…وكنت أحب البحر…ولا زلت…
تخيلت مشهد خطوبتنا هناك على الرمال…لكنه كان مشهدا مالحا في خيالي…حفر للحزن بئرا عميقة… لم أصرخ…لم أنفجر…لكنني تكلمت…لماذا؟
قال آدم حينها… هكذا…عزيزتي…لا مجال للأسف…قضى ساعات رتيبة ومضى إلى مأواه الأخير…حيث السكينة المتعبة… لم يرسم الأمواج حتى على صفحات مخيلتي…لم يداعب شعري والنسمات البحرية…لم يهاتفني…او ربما…ولكن بأنفاس مبتذلة…عفا عليها الدهر ومات… سكين حقدي تحفر في الوديان أنهار سبات…وانا سبات طويل يجمد عمري فلا أكبر…بالقوة…لا أكبر…لأني أريد أن أقفز فوق حبال الفرح يوما… وأجدّ في الطيران أجدّ…أجدّ…فلا فارق بيني وبين عصافير الجلالي المزروعة قمحا…المروية بنبيذ الغسق…سأبقى لأسكر من كل رحيق…وأجد..أجد..وأعبر كل طريق…
أرأيت آدم…كيف سعدتُ…حين حظيت بألف صديق…وألف ألف صديق…ولم أشبع…سأحرق ورق صمتك هذا وأشعل جمر الليل بخوفك هذا…وأحتسي خمر كتابي…
ابق حيث تشاء بعيدا…على مسافة…احظ بغضبي…ومفاتن جسدي…لك تلك النيران… ولي نعمة سموها النسيان وانا وحدي لا أدري كيف تُؤتى!

غريب

-دعيني أغمرك قليلا…
إن الآس يعبق في بوحك…


-ابق على مسافة أيها البعيد…
سأنسى اسمك…ويبقى رسمك محفورا رغما عني…
هكذا تأتي كخفق جناح..بلا إنذار؟
أوهكذا يُجزع ملك الموت ضحيته قبل الإعصار؟ ابق قريبا فالبعد لم يجدِ نفعا…
جربت حتى الكيّ فصرخت من أوجاعي النار…

سمعت وندي هذا الحوار بين يمامتين كانتا تحلقان غير بعيد من النافذة ربما تكون إحداهما فرخ من ذياك العش الذي كان هنا بُعيد شهور…
أحست أن كلامهما نزع عنها قميصا آخر… قميص بدا لها من قبل ناصعا…والآن ترى فيها جسدا آخر أشد نقاوة.

المعلم

انت لا تختار معلمك

هو من يختارك.. بل الطريق يختار كليكما

يومض من بعيد..يرف جناحه فتلمحه أنت..يخفق فيك شيء جديد..

تطرحك الأسئلة بدل أن تطرحها…وسرعان ما تجيب الروح… ينهض وعيك فجأة ليخبرك أنه هنا…وأنت لم تع ذلك من قبل…يهديك باقة آلامك على شكل باقة من ورد…

إلى أين الطريق…

لا تريد جوابا..تريد فقط أن تحيا عظمة تلك اللحظات الخالية من ثقل الزمن…

هكذا كتبت وندي قبل ان تخلد للنوم في هذه الأمسية.

لكنها وقبل أن تلامس رأسها الوسادة المنتظرة… نظرت تفكر قليلا… تنظر إلى آدم…لقد كانا قبل ساعة من الآن معا في جلسة عائلية ، سهرة تحت السماء ، يقطع هدوء الليل قضمات من هنا وهناك…فاكهة ولوز ، وفنجان قهوة ، أحاديث متوقعة في هكذا أجواء مع تحليلات بسيطة ، ثم ماذا… ها هو ينصرف تماما إلى هاتفه.. ليتابع آخر أخبار النهار المنصرم ، وأنت لك عدة خيارات يا وندي وكلها جيدة: قراءة كتاب مركون قرب السرير، متابعة قراءة كتاب الكتروني عبر الهاتف، الاستماع إلى آخر مواقع الفلك وتأثيراتها على الابراج… والتأمل…والتواصل نحو البعيد البعيد…

تراه البعيد أقرب من القريب لأن المسافات سحرية…أم لأننا عمدا او بغير عمد حولنا أيامنا لأقفاص ولحظاتنا لجمود حين اخترنا ولم نتخير حين اخترنا من يشبهنا من نستطيع أن نتشاجر معه لنملأ فراغ الصمت ببعض الضجيج ولكي نطفأ نيران الضجيج هذا بحديث صمتنا…

وندي ..نامي الآن..فلنأجل القراءة ليوم آخر… في قلبك عطر باذخ يكفيك كي تنعمي بليلة هادئة.

إلى متى سننام قبل أن نكتب حكاياتنا الطويلة ولربما العميقة أيهما أكثر شساعة يا ترى طول وامتداد تلك الحكايات أم عمقها السحيق؟ لا أعرف…

لشدة ما حرمتني مراهقتي نعمة النوم أشتهيه اليوم بقدر هستيري لولا هذا الهوس بالخلود إلى تلك الوسادة والغرق في نعيم النسيان والهروب من حبائل الفكر لكنا كتبنا وكتبنا بلا توقف…كم من القصص تأجلت وكم من الكلمات بخرها الوقت الضائع في ساعات النوم..تلك الساعات المقدسة..ذلك الكسل اللذيذ الذي يهبنا فرصة التخلي عن الطموحات الزائفة ويترك لنا مساحة الحرية التي نتمنى.

هل انت معلم كما قالوا لي ذات مرة؟

ام انت نجمة الميلاد التي طالما سحرتني أثناء مشاهدة افلام العيد حين كان هناك ثلة تنتظر قدوم عيسى في بلاد الشام داخل مغارة او تحت شجرة نخيل…أميل للمغارة أكثر ففيها من الخصوصية ما يجذبني أكثر..لم أتعاطف يوما مع شجرة النخيل الفارعة التي تحمل ثمارها حصرا على رأسها كامرأة افريقية عارية تلف صدرها ومحيط خصرها بلحاء بني يقطر دبسا…

ليست شاعرية النخلة كشجرة الزيتون او الليمون والبرتقال…لا تحمل عطرا يتسلل إلى ذاكرتي..لا تشبه بلدي او انوثتي…لا تغمرني كما تفعل شجرات بلادي انها زائرة دخيلة استوائية نزحت من الصحراء البعيدة…نزحت من مكان غريب وبعيد.

على عكسك انت شجرة مثمرة عابقة بياسمين وبابونج وحبق وبعض زهور الليمون والبرتقال شجرة فريدة من كل شيء نزحت نحو البعيد لكنها ما زالت تتعلق بالأرض بهنا بهذا المكان عبر تيارات الهواء وأسلاك القلب اللامرئية…تتصل رغما عن الصقيع والمسافات بهذه التربة ،تحاكيها وتبعث فيها البذار الهواء الماء والشمس الدافئة.

هل تسمعني يا ترى وتقرأ رسالات صمتي… هل تتنبه حواسك لاختلاجات افكاري وتنبعث في مسامك عطور مشاعري المزدحمة؟

انا وندي التي لم تبرح شرفتها ونافذتها وكتبها… انا التي بحثت عن ذاتها ذات طفولة فضاعت أكثر حتى اكتشفت سرك المدفون داخل رواياتها الكثيرة الحافلة بالزهور والحبق.

لست سوى ذلك البطل الوحيد الذي لم احلم يوما ان المحه ولو في الخيال لاني كنت حينها ارى الخيال نزقا وغربة.. بئر سعادة لا تليق بالاقوياء.. والآن ادركت حاجتي لتلك البئر ولذلك الضعف ولهذه السعادة.

أتعثر بالحصى..لكني اضحك…أغرق في الوحل.. اضحك..أداعب بتلات زهر البابونج الطفل فأغرق وأغرق في نعومتها ورائحتها ونسيانها.. انسى معها هويتي وكل ما يمسك بأطراف ثوبي..أطير بحرية أجزم أني أمتلكها…ولا احد يمتلكني..لا آدم..لا أحمد..لا أحد مطلقا.. ويصدق الكون اعتقادي هذا بكل ما اوتي من خلق وإمكان.. يصير طوعي…فأجدك حيثما ثم وجهي..يرونك في زجاج عيني فلا ينكرونك لأنك حقيقتي..يشتمون ريحك في مذاق أطباقي فيلتهمونها بشغفي نحوك ولا يزيدون الملح ولا السكر…يؤمنون أنها على مقادير شوقي الأبدي..ولا يفتكون بي حتى بنواياهم لان ايماني بك أعمق بكثير مما يعون.. يشعرون بي..بك..في كل تفاصيلي فيحبونك رغما عنهم ولا يجرأون على رجمي بينما انا طوال ساعاتي الزم معبدك بقداسة.

نحن ما نحن عليه .. لا تهربوا بعيدا.. لا تكرهوا كل من راى زلاتكم وعاين بؤركم الآسنة.. يوما ما كنا بذرة وقبلها حصى.. ثم غرسة ليمون.. وبعدها أقحوان… من يدري كم كان الشوك فينا ضاربا الجذور.. كاسيًا الصدور.. لعلنا لم نعد نتعرف وجوهنا تلك الغابرة.. أو نود ذلك .. لكن كلما كان العناق متينا بين نحن ونحن ماضينا يمسك بيد حاضرنا بحنوّ يلغي لعبة المسافات الوهمية..نبقى أطفالا كما كنا .. نخطئ ويمحو الليل هفواتنا… والضحكات البريئة تغمز لقلوبنا سرا… فتسامحنا الأيام ونصالحها..ونصافح كل من مر وكان يوما ما سكّرا أو مرّا..

كم أحببت القهوة المرة منذ زمن كنت فيه طفلة ما زلت وكانت قريبات أمي المعقدات يرمقنني بنظرة عتاب..تشربين القهوة بهذه السن الصغيرة! ليتهن خفن على صحتي.. لقد استكثرن القهوة على ذائقتي وتطفلن على خصوصيتي ثم أردن طردي من عالم ظننّ أنه ليس ملكي بعد …من يدري متى تطفو الأنوثة فوق أقداح الصباح ؟ من يدري متى تلثم الشمس اول قطرة ماء من ذاك المحيط الشاسع..من يدري؟

كل هذه الوجوه ..كل تلك المشاهد والثرثرات…تمر كالوان قوس يضرب عمق الروح والفكر..تشفي الجروح…وترسم فينا لوحة تعانق المدى والأزل.

سابقى معك كأنك المرآة ليست كتلك التي تقتنيها الساحرات والفتيات..بل وجه القمر الذي يبيت في داخلي كل الوقت ولا ينطفئ طالما شمس قلبي تتوهج. منذ متى لم تكن المرآة ..وجه القمر الحنون..و القلب شمس الوجود تمدك بالبقاء ليستنير كل الكون بهذا الحضور بيننا ها نحن آية الحب والجمال والمستحيل.

أرى وميضا كل ليلة ينبئني بظهورك… أرقص حول النجوم المنعكسة على صفحة شرفتنا القديمة التي لم تعبّدها حجارة الحضارة وأصنام البدع الجديدة..أرقص حول دائرة أرسمها.. وكلما بان هلال..أقول ها هو .. ها هو.. فيجيب قلبي لا .. لم يأت بعد.. فأستعير من الوهم والأمل خيطا أحبك فيه انتظارا آخر…إلى أن شع وجهك الذهبي في كأس اشتياقي فاحتسيتك دفعة واحدة.ومن وقتها أشرقت ولم أنطفئ.

آدم…أتسمعني؟ هل تشتعل الغيرة في وجدانك الآن..أم راقك ضوئي؟ كلما ذهبت لموئل النور ومرتع السرور اعود إليك كعود اليمام لعشها الدافي… ممتنة لذلك العش الذي لم تبرحه إلا لتجمع المطر من حبات الوادي واكواز الجبال… يشبهك الغسق…يشبهك ريش اليمام الحنون…فها أنت تراني أحلق في البعيد البعيد ..وانا أراك تنتظرني…وتكتفي بذلك… وبين الحين والحين يروقك ضوئي انا المح ذلك في عينيك وفي صمتك…هلا سامحتني.. انا لم اختر جناحي ولا شمس قلبي..

انتظار

حملت وندي صينية القهوة ،ركوة وفنجانان ، جلست قبالة شارع طويل ممتد من أقصى جنوب لم تره لآخر شمال لم تدسه قدماها بعد.

كان الهواء مباغتا ككل شيء…ككل المفاجآت التي تأتي فجأة ولا ترحل بسهولة… جلست على كرسي هزاز اشترته في العام الماضي ، كان إضافة مميزة لتلك الشرفة التي لا تتسع إلا لجالسيْن.. هي وآدم…

أين أنت أيها الهارب من نبض الخيال ولوحات ذاكرة دفينة تلاشت مع الدهور؟ ترانا لو تذكرنا ما كُناه..ترانا سنتحمل عبء كل الدهور؟ أويتسع البحر في كوب واحد أو في فنجان قهوة ؟

أنا اجلس وحدي مرة قرب نافذتي أفترش سريري وكتبي…ومرة على تلك الشرفة التي تتسع لكلينا مع ياسمينة وشتلات حبق ونعناع وورد خبيزة…وفلفل حاد كهذا الانتظار…

انت لا تعي أنك تتركني وحدي…ليس في غيابك اللامبرر فحسب…حتى في حضورك أنت تغادرني في هاتفك الذكي..ونشرات الأخبار… تهرع لتملأ مسافات الفراغ بفراغ أكبر…صمتك لا يحدثني…لا …لم تنتق يوما واحدا في العام لتشملنا أنا وأنت في باقة ما…تعرف جيدا أنني أرتضي عطرها ولا …لا أطمع بعود وصندل وياسمين معتق…أخبرتك أن ياسمينتي تكفيني شغفا وهذا الريحان يشفيني…أينك من كل هذا؟؟

ترتشف القهوة مرة بحلاوة غريبة… تتخيل مشهدا آخر…آدم يستيقظ… يجد القهوة والفراشات ومزيج من عطور وزيوت تنتظره في ركن دافئ… يقبل جبينها ، يحتسيان القهوة ،يزرع بين خصل شعرها ورقة خضراء أو زهرة انتقاها بعناية من الأصص الكثيرة المتراصفة هنا وهناك يداعب والنسيم خدها بنظرة واحدة…ثم تستيقظ من حلم اليقظة ، إنه استفاق ، ارتدى ملابسه على وجه السرعة ، أخبرته أن القهوة جاهزة.

  • أنا جائع… سأتناول لقمة وأعود بعد قليل…نشرب القهوة لاحقا خلال اليوم…
  • معه حق …هو لم يخطئ بالمرة…العمل ينتظر…عمل طويل.. ساعات مرهقة…لكن ماذا لو قطف لي بعض الوقت؟ الا أستحق حتى تلك الباقة؟

همس صوتٌ

لا يجوز لكِ أن تطفئي القمر الذي أشعلته في قلبك البعيد ،خلف كل جبال العقل ،هناك… يشع لك قلب آخر ،كالمياه الارتوازية تماما ، وانا عرفت كيف أعبر صخورك المتتالية وأفك طلاسمها كيما تتفجر…في الداخل هناك رأيت قمرا آخر ، ليس كتابع أرضنا …بل اكبر وأجمل بمراحل…لا يجوز لكِ أن تخمدي نوره بخوف ولا بالتزامات عادية… لقد جئت لكي أشهد ولادتك من جديد… وقلة هم من يولدون كل يوم من رحم الفجر ويموتون في فم المغيب…وأنتِ منهم وندي…

وجدت وندي نفسها أمام موت محتم
رغم ذلك كانت سعادتها لا توصف
أحست لوهلة أنها على وشك أن تتخلص من عبء ثقيل…
هناك قناع هي لا تود أن تلبسه ،يؤلمها، يرتديها عنوة..
متى حدث كل ذلك؟
اسقطها السؤال في قاع متاهة!
العينان خجلتان والقلب واجف
هي لا هي الآن…
لا آن في جيدها .. الساعة معطلة العقارب..
عدّاد الوقت اضطراب مخيف…
الأمواج تعلو أمامها حتى آخر الافكار…
آخرها أسماك نافقة تتلوى على صفحة لؤلؤية…
صرخت…
لا هذه ليست انا…
ليست انا…
الأفضل أن أرحل…
لا أقوى على ذلك..قدماي عالقتان بالرمل هنا… شعاع الشمس يصفعني كي أستفيق من النكران…
قبلاتي كأنها طقوس امتدت منذ أزل الطفولة…وحتى أزل الرحيل الجديد…طقوس أقدمها على مذبح هذه الحياة التي لا اعرفها…

كلما أرتمي فيك اشعر بغصة روحي…يخنقني عذابان…انت وانا…وهذا الاحتمال الأخير في قاموس عقلي الصغير ان نكون انت وانا…ها نحن كلانا نرقص رقصة مزيفة… لست بأفعى كي أوارب… جسدي مكشوف أمام عينيك العاريتين…وروحي تشف وتطير…
أريد أن أغرق…
ويسحبني الشاطئ لقلبه الدافئ.. لكن الماء يرعبني كطفلة…
أعود لها فأبكي على كتف المغيب وحيدة…
اشتاق إلى رقصتي السعيدة وحدي على شرفة أبي…والانغام أعزفها وحدي…فيسمع العالم صلاتي…ويستجيب حتى المطر…فيغسلني من رأسي إلى أخمص ابعادي….
هنا اتذكر اني اخترتك..بضعفي..بانكساري..بكل قوتي…بكل براكيني الجامحة…ورأيت نعم…هذا الوادي بيننا..على مسافة الف الف فرسخ…والصدى يردد فيه…كيف ستحيا روحك هنا؟
لكن المدى كان يجيب…بدلا مني…
أيها الموج…أنت تعال…وان شئت خذني…
لفني الموج.. حول رقبتي بقوة…ثم عصر خصري…بعدها أفلتني للخوف… ينقذني…
ارتميت بلا جسد هناك…عيناي مغمضتان…وبقيت اشلائي معك..آدم… تعيد الرقصة…وتعيدها..تدور وتدور…تلف حول الزهرة…حول الشمس..حول غيمة..حول القمر… لكن اللحن اختفى من ذاكرتي..لحن الطفولة بخرته الشمس…أذابته غيمة…
والقمر ما زال شعاع الامل الوحيد…ما تبقى لي مني.

حين سمعتك

عندما سمعتك تتكلم كان الفصل خريفا برتقاليا كثمرة نارنج مرة قرأتها بالأمس كتعويذة على لسان ساحرة أحكمت حبكة حياتها في رواية لم أستطعها أنا…
كان الفصل ماطرا كدمع مبتهج…كعناق صوفي يرتديه العصر والأديم وسرب يمام جامح يعبر الأمداء في طرفة عين…

عندما سمعتك تتكلم ،كانت الشفاه كلها مطبقة في عقلي فلم أر إلا شفتيك تهمسان فتصرخ الأصوات ألحانا وعبارات جديدة ،قاموس حياة وتدحرج فوق العشب الندي فما عاد الخريف خريفا ولا نسائمه رحلت ،بقيت عالقة في أنوف الورد ،في مساكب الأيام ، طوت الأيام ،استحالت الايام مواقيت صلاة لكعبة واحدة ،هي صوتك.
أنت

عندما سمعتك تتكلم ،استعادت الحياة حياتها في كياني المجهول ،حينها أدركت أن سعادتي ما كانت إلا قطرة من بحر…وها هو أمامي يتماوج البحر بغروره الشاسع ،يضرب الأعماق بمجدافين ،بعينين، بقبلة مطبوعة فوق جبين عفرته قداسة…عرفت حينها أنك مقدس ،كيف لا ..وقد انهالت الأضحيات من شجري ، أغصانا ونيرانا لا تخبو.

صرت أسائل نفسي كثيرا عن هويتك أيها الغريب لكن روحك التي حضرت بقوة رمت بأسئلتي في جُعب النسيان البعيدة وصارت تردد في فكري الهادئ كلمة واحدة هي انت.

من أنت؟ هل تستطيع ان تفصح عنك … أم ستترك الصفحات تجري بما لا تشتهي… كأنك لا تعي ولا تريد ان تعي أنك الحاضر هنا بكواكبك الأحد عشرة وأنت آخرها… بانتظارك المرير..بالفقد والنكران… بخيبة أبدية..بلعنة لقاء!

فتحت وندي عينيها ، كانت تسير في طريق بستان مليء بشجر البرتقال والليمون والنارنج ،باغتتها تلك الروائح المزدحمة كافكارها تلك…تذكرت صوته ،ماذا حصل في لحظات؟ هل يفعل الصوت والكلمات مثل هذا الفعل ؟ نظرت حولها ،رأت الجميع مشغولين عنها ،بأحاديث كثيرة ،وقطع قطيع الماعز مشاهدها برنين الأجراس…مد آدم يده ، أمسكها..بُهتت..ابتسمت…وأكملت الطريق بعينيها وقدميها ،لكن روحها كانت معلقة صوب غيمة بيضاء شفافة ،كانت تجعلها تختفي وتعود..تماما كزينة شجرة العيد…تومض..تومض…وتختفي.

كان عناقك اشبه بالمستحيل
المستحيل الجميل
التوق إليك أشبه بحلم أسير تحتجزه الهموم منذ الطفولة
ويود أن يطير..ويطير…
جربت أن أعانق آدم… لكن الفجوة كانت تتسع أكثر…ففي العناق يولد بدر مكتمل…
تُختزل أوجه القمر في ليلة واحدة..في ساعة واحدة..في لحظة واحدة…في قبلة واحدة…
أتمزق بينما أرى أشلائي يبعثرها الخواء… روحي بركان وجسدي وردة… فكيف يحمي الجليد حرارة لحظاتي المتبقية… كيف ؟

لماذا جئت؟
أنت؟
ألتحمي عناقي من النسيان ؟
أم لتزرع الأفخاخ في مخيلتي…كي أتشظى للأبد..
لو كان بإمكاني عناقك لفعلت…
حبل أيامي يعصرني..يعصرني لأولد..ولا أدري ما سأكون..

خرجت وندي إلى الغابة ،إلى البحر ، إلى الحقل ، إلى الاسواق ، لكنها بقيت حبيسة دارها.. وحين سمعت ذاك الغريب ،ذات عصر ، حين انسكب الربيع في قدح الخريف ،حين امتزج الورد بالبرتقال ،حين اختلطت الحقيقة بالأوهام ،وحين اختفى الأمس وبقي الآن شاخصا في حضوره السعيد..ذاك الغريب… حينها فقط خرجت وندي ،سافرت،حلقت ، ها هي تزور بلادا جديدة ،تتعلم لغات ،تحترف المهن ،تجترح الحماقات الرائعة ،تغزل القصائد الجريئة ،تقطر الورد، تصنع البخور والصابون وتغسل الحزن بماء الفرح….

سأقتلها…

حمل كفه ليصفعها..فوجدها ثقيلة…ملحها يفوق الماء… حمل ذاكرته معها ليرشقها بها…فانتبه لها وهي تقبع في إحدى زواياها تبكي بصمت..تنزل دموعها وفمها مطبق…بلا همس حتى…فحنّ..وأنّ وانتزع قفصه الصدري ليحبسها للأبد…فرأى نافذة مرسومة فوق جبينه..ورآها تحلق كيمامة..فابتسم ونسي أن ينتقم…
آدم…
هل أنت أخرق؟
سمع سؤالا من داخله يهتف له ..
فأجاب: أحبها.

سكن الضَياع ، وهجر الأماكن المزدحمة… أغرق جسده في المحراث…وروحه في اللاشيء…وظل يراقبها كطير مرصود…لا يمكنه الابتعاد…قرأ ألف ألف تعويذة كي يسترجعها… لكنه لم يتفوه بأي حرف.

كنت أنوي قتلها ،إن رحلت…لقد غضبت…لكنها لم ترحل…لم تحبني يوما كما أحببتها…يكفيني ظلها…حين حملت السكين كي أطعنها…سرت فيّ قشعريرة…كيف أنتزع أنفاسها..تخيلتها ترحل…تخيلت جسدها هامدا…وتخيلت ألمي الكبير…قابض الأروح…يا لها من معضلة…حين رأيت عينيها وشممت عطرا لها…أزحتهما..عيني..عنها..فوقع بصري على يدي التي استحالت غصنا كبيرا…نظرت لجسدي…هالني ما شعرت…كانت جذوري تضرب باطن الأرض… وأنا سنديانة عتيقة.

صار السكين وردة ريحان ، امتدادا لشذاها، غفرت لها في رفة رمش ما فعلته، وما زلت اؤمن اني لا أعي ما فعلته، انا أشعر بما فعلته ، أتقصى الروائح ،بين ضفاف كتبها ، في نسائم نافذتها ، وعلى وقع خطوات شرفتها تضطرب الآثار…وتُمحى الخرائط…تراني سعيدا في فوضاها… مجبولا في طرقها الملتوية المزروعة بالحب ؟

على خشبة المسرح

كان المسرح هنا صغيرا ، لم أعد اتذكر المكان تحديدا..أو لا أريد… أشعر أنه كان قطعة من ذكريات انسلخت عني ، قطعتها بكل ما أوتيت من حرقة ودموع لم تستطع الافلات مني، وعلى الرغم من عمق المحيط.. ووحشة المكان…على الرغم من شراسة كائنات هذا العالم ، ما زلت أراها تتنفس ، يعلو صدرها ويهبط، ترتسم على محياها بسمة الموت…من استسلم له…ولم يغادر.

أقترب منها … ذكرياتي تلك…أشم عبق الطفولة ما زال ينضح منها ، فيتلاشى الموت فجأة…يختفي…
دنت وندي…كمن يدنو من قاع الوادي وهو ما يزال يقف عند حافة جبل شاهق ،قدماها تلمسان الارض، بينما يمط جسدها عبر تلك المسافة البعيدة فتصبح عملاقا طويلا..طويلا…ذراعاها أمتار وأمتار…تلمسها…هي نائمة ، تلمس خدها الوردي… شعرها منساب كما كان دوما…تشد جسدها فيطاوعها بسهولة…تعانقها…تلفها حول صدرها بذينك الذراعين الغريبين ، تستيقظ ، تفتح عيناها بصعوبة.. بصوت ضعيف:

أريد أن أنام…..
حملقت وندي في وجه الطفلة…صرخت: إنها أنا..أنا…ماذا يحدث ؟

جلست وندي تبكي عند ذلك الجسد ، علا ماء المحيط واستحال الوادي سهلا…الدموع تنهمر… الورود تكبر بأعجوبة… الطفلة تصعد المسرح..الجمهور يصفق… المسؤولة تهمس بأسنان مصطكة…هيا..أنشدي الأغنية…نظرات القوة…خفقات الضعف…أصوات الأكف المتتالية…صمت الخوف….لحظات الانتظار الملتهبة…جليد الكلمات المنسية..على شفاه أطبقت المشهد وأسدلت الستارة الحمراء…كل شيء كان يهبط نحو الأسفل..العتم والأمطار…الحب والأفكار..الأنفاس والأنفاس… تلاشى الذراعان…أطلقت الطفلة الزفرة الأولى…نبتت وردة صبار حمراء ، خلف شجرة التين… أغمضت وندي عيناها برهة ،ثم صعدت جبل النور ، قطفت نجمة برتقال ، بيضاء كانت…حفظتها في كتاب سري ،كانت تقرأه…

مشت ومشت…

والأيام تطوي حدائقها والمروج…وما زال المطر حليفها الأول …تبكي معه… تتغلغل معه في بواطن كل شيء ، تنمو في الأماكن والشجر ، حتى في الصحارى تنبت اشواكا جديدة ذات زهرات حمراء…

ذات يوم…

وبعدما كبرت وندي كثيرا..كثيرا بالنسبة لعين طفلة ترمق ثوب أمها كل يوم ، تنتعل حذاءها الأنيق ، تحمل مثلها فنجان قهوة ،وتسامر الجارات ويسامرنها…كبرت بالنسبة لأحلام صغيرة على مقاس أمتار متواضعة من قماش أصفر شمامي ، له لون الشمس تضمخه ألوان النار والغروب..لم تكن ألوانا تشبهها ، لا تعكس درجة انعكاساتها الشفافة…لكنها ارتدت الثوب…كل الوقت في الحفل كانت مضطربة..كشمس لم تشرق بعد…هذا الثوب لم يلمسها ،لم يحاكيها، لم يخبرها أنه يحبها لذا هو يرتديها…لم يخبرها عن جمال خصرها وملامح وجهها.. لم يتغزل بخصل شعرها الذهبي الذي يتخفى تحت منديل شفاف ،هو الآخر ذو صفرة وابيضاض..يتأرجح بين الياسمين وعباد الشمس…قلبها العابد…كان يرنو شيئا آخر.. كلمات حب…

كان يكفيها أن تقول لها الشمس أنت رائعة…. كوني خيوطي يا وندي..كي ترقصي في الحفل كفراش ونحل وقفير…

لا ..لا…كنت أبحث عن مقاساتي في الاشياء حولي…ثوبي… سرقوا جسدي وأثوابي كلها…أريدها لؤلؤية..بلون السماء…بيضاء…زرقاء…زهرية…

  • لم تسألني أمي: أي لون تفضلين يا وندي؟

تراها كانت تجدني مشرقة كالشمس ؟ هذا عميق جدا…اه..لماذا لم تخبرني وقتها…؟ نسيت ربما… نسيت ان تخبرني أني أبدو كأميرة..لقد قالتها…ولكن باقتضاب شديد.

وصلت وندي إلى شرفتها…ونافذتها… وكتبها الكثيرة التي لا تجد لها وقتا…1

  • عادت إلى خشبة مسرح كبير…كان الجمهور صامتا..نبضاتها تصفق…المسؤولة ترتعد..لأنها ستبدأ بكلمتها الآن…أنهتها..حان دور وندي.. نظرات الضعف…خفقات القوة…صمت الأكف… ضجيج الافكار.. لحظات الانتظار الملتهبة…حرارة الكلمات المتدفقة…على شفاه شرعت الستارة الحمراء…وختمت المشهد…كل شيء كان يحلق نحو الأعلى.. الضوء والأمطار…الحب والأفكار..الأنفاس والأنفاس…تلاشى الذراعان…أطلقت الطفلة الزفرة الأخيرة…نبتت وردة ياسمين بيضاء ، على الشرفة…
  • ترانا نتحامل على ذكرياتنا أكثر من اللازم ؟ ترانا نلصق بها تهما ونفتري عليها بمشاعر متضخمة لتثير فينا الشفقة؟ ترانا نحيكها بخيوطنا نحن وننسى خيوطها الأصلية..؟ لماذا نفعل كل ذلك؟ لماذا…نعود بعد ذلك ونصالحها..نشكرها لا مكرهين..نضمها…ألانها صارت جزءا منا..أم نحن نعتاد الاشياء فحسب…فنرفض التخلي عنها..لأنها عاشت فينا مدة وأدركت كل جوانبنا..وأخذت منا الوقت والحب والانكسار…فصرنا أمهاتها بالفطرة…وهي الأطفال التي لا يُتخلى عنها ببساطة..

ترانا نتحامل على ذكرياتنا أكثر من اللازم ؟ ترانا نلصق بها تهما ونفتري عليها بمشاعر متضخمة لتثير فينا الشفقة؟ ترانا نحيكها بخيوطنا نحن وننسى خيوطها الأصلية..؟ لماذا نفعل كل ذلك؟ لماذا…نعود بعد ذلك ونصالحها..نشكرها لا مكرهين..نضمها…ألانها صارت جزءا منا..أم نحن نعتاد الاشياء فحسب…فنرفض التخلي عنها..لأنها عاشت فينا مدة وأدركت كل جوانبنا..وأخذت منا الوقت والحب والانكسار…فصرنا أمهاتها بالفطرة…وهي الأطفال التي لا يُتخلى عنها ببساطة..

  • فتحت وندي عيناها برهة ، ضمت ثوبها الأصفر..قبلته..أعادته إلى خزانة الماضي..هي لا تحتاجه..الوردي يليق بها أكثر.
  • أفقد لغة التواصل في كثير من الأحيان،ينتابني شعور أنني صخرة ،كتلة متجمدة أمام أي مشهد ،مقابل أي شيء ،أو كائن من كان، أنسحب إلى مكان بعيد ،عميق في داخلي ،أظنه أكثر أمانا ، يعانقني بشكل أفضل..
  • اذكر جيدا ،ذلك اليوم الذي زارتني فيه صديقتاي المقربتان بغتة بلا موعد…تملكني هذا الإحساس الفظيع…أصبت بشلل شعوري وفكري ، كنت في السابعة عشر وقتها…تمنيت لو تتبخران تماما…ولا أراهما..لا أريد أن اسمع ولو كلمة…اي حديث يهمني ؟ لا شيء على الإطلاق ،في هذا الموقف تغدو الحياة كلها ثقبا أسود ،وتغدو انت جرما متهالكا تجذبه الظلمات نحو داخل سحيق..
  • سحقا! ألف حوار يدور داخل الرأس الصغير ،لا متسع لهمسة.
  • اليوم
  • وبعد مضي عشرين عاما…وحين تتكرر تلك المشاهد ومعها حوادث مماثلة ، أنظر حولي ،فأجدك انت من جديد… بنين…تلك الام الغاضبة التي لم تتقن فعل الحنين ، تكرر جرح الطفولة ، تعيد رسم خرائطها فوق صفحات الحاضر…
  • أهرع نحو قلبي ، أغطيه كي لا يبرد ، أهدئ من روع كل مساماتي المتعبة ، اليوم أنا أفضل ، لا أرغب بالانعزال التام ، أبكي بوضوح وأصرخ بحنان مفرط ،يأكلني الوقت يمضغني ، يحاول أن يجبلني بنكهة بنين ،بحزنها، وعصبيتها ، لكنني أصارع جاهدة كالريح وانا وندي كما عهدتُني أولد كل عام من رمادي واحتراقي،ورغم الألم اضحك ،ورغم صعوبة النسيان ،أجد الليل يسعفني ويطوي عني صفحات وصفحات…
  • إلى متى ستحاول الرياح وبنين وكل المتعصبين…ان يشدوا الحبل حول عنقي ؟ وكم سأصمد بعد؟

1 thought on “لا لم يكن مثاليًّا ! …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *